“المؤابي” رواية تخيل تاريخي عن ثورة العرب ضد العثمانيين
325
4 سنوات مضت
أكثر من أي وقت مضى صارت الرواية التاريخية تجتذب الأقلام العربية، مغرية إياها بعوالم ثرية من الحكايات والقصص والشخصيات والأماكن والأحداث، وهو ما اندفع إليه الكثير من الكتاب، ليقدموا أعمالاً روائية ليس رهانها الالتزام بالتاريخ كما هو بقدر ما يهدفون إلى استنطاقه من خلال الخيال وإسقاطه على الحاضر لفهمه بطريقة أفضل، كما فعل الروائي الأردني سامر حيدر المجالي.
“مؤاب” اسم تاريخي لمملكة في الأردن قبل الميلاد يرجعه بعض المؤرخين إلى الجذر “مآب”، أي مكان غروب الشمس، في حين يرجّح آخرون أنه كان اسماً لقبيلة سكنت المنطقة وأسست تلك المملكة، في محافظة الكرك الحالية على الساحل الشرقي للبحر الميت.
من أبرز ملوكها “ميشع”، الذي خلدته مسلة تُعد أهم وثيقة مؤابية مكتوبة تحتوي على معلومات عن تاريخ المؤابيين ومعتقداتهم الدينية وجغرافيتهم ومنجزاتهم العمرانية وفكرهم وانتصارهم على أعدائهم.
ويحمل الآن أحد أقضية الكرك اسم “مؤاب”، ومنه استمد الكاتب الأردني سامر حيدر المجالي اسم روايته الأولى “المؤابي”، الصادرة حديثاً عن دار “الآن ناشرون وموزعون” في عمّان.
التاريخ المتخيل
تندرج رواية “المؤابي” ضمن روايات التخيّل التاريخي، أي التي تشكّل المادة التاريخية بواسطة السرد بعد قطع تلك المادة عن وظيفتها التوثيقية والوصفية لتؤدّي وظيفة جمالية ورمزية. وتتخذ الرواية مدينة الكرك مركزاً تنطلق منه الأحداث خلال السنوات الممتدة من 1900 إلى 1920 (وخلال تلك السنوات وقعت الحرب العالمية الأولى واندلعت الثورة العربية الكبرى) لتصل إلى دمشق وحلب وغيرها من المدن والبقاع في الجغرافيا الأوسع.
رواية تاريخية
وتتشابك الأحداث في دمشق، حيث يبرز الصراع بين حكم الاتحاديين الأتراك والحركة العربية الناشئة، وما واكبه من عسف وتنكيل، وتدخلات من الدول العظمى، خاصة فرنسا وبريطانيا اللتين أرادتا تحقيق مكاسب انتهت بتقسيم سوريا الكبرى، وبمعركة ميسلون التي صورتها الرواية في مشهدها الأخير، وهي المعركة التي خاضها العرب بقيادة يوسف العظمة ضد الجيش الفرنسي، واستشهد فيها “أنيس”، إحدى الشخصيات الثائرة في الرواية، مع باقي الثوار، وكان قد شهد قبل ذلك الخيانة المقيتة في أحلك الظروف وأدقها.
ومن الجلي أن موت “أنيس” يمثّل “موت حلم الشباب العربي التوّاق إلى وطن مستقل ومندفع للمستقبل”، كما كتب الروائي مجدي دعيبس صاحب رواية “الوزر المالح” حيث “كان الحلم قريبًا جداً، وفجأة تبخّر وانتهت الدولة الفيصلية، وهذا ما سبّب حالة من اليأس والحَيرة وخيبة الأمل. هؤلاء الذي وقفوا في ميسلون مثّلوا حالة من الحلم والكرامة والتاريخ، في حين تلاشى الذين التهبت حناجرهم بالخطب والوطنية والثرثرة السياسية”.
كما يبرز في الرواية التنازع الفكري والسلطوي بين أقطاب متناحرة عدة: الاتحاديين والائتلافيين والقوميين العرب، بينما “يحلم الناس البسطاء بتأمين عشاء الليلة القادمة لأطفالهم”.
وتحفل رواية “المؤابي” بالوقائع التي تجسد البيئة المؤابية بملامحها العشائرية، وعلاقتها بالمحيط العربي وبالسلطة العثمانية، وبتطلعات أهلها وطموحاتهم التي عبَّرت عن وعيهم بالمرحلة وتطورات أحداثها الحاسمة.
شخصيات وأحوال
تتعدد شخصيات الرواية الرئيسيّة والثانوية، وتتباين طبائعها لتقدم رؤاها ومواقفها باختلاف مساراتها بين ثائرين على السلطنة العثمانية وأصحاب مبدأ لا يحيدون عنه مثل عدنان المؤابي، وباحثين عن أمجاد شخصية مثل سلامة بن كريم، الذي يصبح لاحقا سلامة بيك، وآخرين موالين لتلك السلطنة التي أغدقت عليهم الأوسمة والألقاب والأعطيات، ومنحتهم السلطة لتسيير شؤون نواحيهم وفقاً للعادات والتقاليد المعمول بها مثل ابن عويّد.
تعبّر الرواية عن تبدلات وتطورات في تلك الرؤى نتيجة تراكمات الأحداث، فبطل الرواية عدنان المؤابي والعقل المخطط لثورة “الهيّة”، التي قامت في الكرك ضد العثمانيين، يوصَف في مرحلة من المراحل بأنه رجل داهية، وهو وإن أبدى تريثاً ظاهرياً في ذاك اليوم الذي اجتمع فيه الثوار لتدارس الموقف، فقد كان في حقيقة الأمر “يضع اللمسات الأخيرة على خطته التي أرادت لتلك الثورة أن تقوم دون أيّ تأخير”. وحين تضع الثورة أوزارها يرى البطل أن عليهم أن يهتموا بالحياة من الآن فصاعداً “كفانا موتاً، مواجهة الحياة لا تقلّ شجاعة عن مواجهة الموت. لقد فقدت عشائرنا كثيراً من شبّانها وزهرة رجالها في صراعها مع هذا العالم الذي لا يرحم أحداً”.
ويوجّه كذلك ابنه فارس قائلاً “هذه الدَّولة قَدَر يا فارس، ونقيضها قَدَر كذلك، فاظفر منها في الحالتين بما يجعلك عالي الشَّأن”.
وتقدم الرواية كذلك وصفاً للطبيعة المؤابية وطريقة الحياة البسيطة آنذاك “وراء الطُّور تهجع الأغنام في زرائبها. في مثل هذه الساعة حين تدنو الشمس من كهف الغروب يعجّ الفضاء بالقطعان العائدة من مراعيها، يتقدّم القطيع راعٍ ويتخلّف وراءه آخر، وتحفّ القطيعَ من الجانبين كلاب الحراسة. ثمة موسيقى أيضاً، خليط من أشياء كثيرة؛ أجراس تُقرَع، وكلاب يشتدّ نباحها، والخيول التي لا تتوقّف عن الصهيل”.
ومن المشاهد الوصفية أيضاً قول الكاتب “هذه الرحلة اليومية هي الشريان الذي يمد الناس هنا بالحياة. تنمو أجساد الأغنام فيتخللها أريج العشب الذي تستطيع أن تجد نكهته صافية في حليبها وألبانها وزبدتها، لكلّ عشبة رائحتها ومذاقها الذي لا تخطئه الأحاسيس المرهفة. تتكاثر الأغنام في فصل الشتاء ويـُجَزّ صوفها في أول الصيف، ويُباع الفائض من الرؤوس للتجار في سوق الحلال، ويُدّخَر عدد منه للأكل وللمناسبات الاجتماعية. الدورة واضحة وبسيطة”.
ويذكر أن المجالي حاصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من الجامعة الأردنية، والماجستير في إدارة الأعمال من جامعة نورثامبتون البريطانية. وهو باحث في مجال التصوف والفلسفة، وأصدر قبل هذه الرواية كتاباً فلسفياً بعنوان “شياطين في حضرة الملكوت” يتناول قضايا الوجود ومفاهيم الزمن والخلود، وكتاب “نصوص عرفانية وفلسفية” وكتاب “أكمام الحب والغضب”، وهو نصوص أيضاً.