قتل دون رصاص
فوزة يوسف
يقول أحد الكتّاب «عندما يحرقون الكتب، سينتهي بهم المطاف بحرق البشر»، هذه صيرورة حتمية تبدأ بمقدمات معينة وتنتهي بنتائج حتمية، فعملية إبادة أي مجتمع تبدأ أولاً بحرق كتبه، وطمس تاريخه، وقتل لغته وتشويه عالمه الذهني والجمالي؛ ليبقى بعدها قتل فرد هذا المجتمع والقضاء عليه جسدياً تحصيلاً حاصلاً في غياب أي إرادة للمقاومة.
يُعبّر الكاتب هنا عن مدى خطورة الإبادة الثقافية التي يمكن أن يتعرض له شعب ما، فالإبادة الجسدية تأثيرها مرحلي، في حين أن الإبادة الثقافية تأثيرها طويل الأمد؛ لأنها تؤدي إلى التمزق العميق في عالم الفرد المعنوي وهي بالفعل عملية قتل صامتة أو قتل دون رصاص.
فالثقافة بالنسبة للمجتمعات هي تعبير عن المعنى، عن المضمون، عن قانون البنية وحيويتها، أنها تعبير عن فنه، عن علمه وأخلاقه. وأيضاً الثقافة تعني المؤسسة التي تضم كل ما تم ذكره لكي يتمكن المجتمع من الاستفادة منها.
اللغة أيضاً تشكل عنصر أساسي في أي ثقافة وأحياناً تكونان مندمجتين بحيث لا يمكن أن نفرق بينهما. فاللغة أداة التعبير عن الإرث المجتمعي، عن الذهنية ، والأخلاق، والجماليات، والمشاعر والأفكار التي اكتسبها مجتمع ما، فهي الهوية الوجودية التي تعبّر عنه على صعيد المعنى والعاطفة. فالمجتمع الذي يعبّر عن نفسه بلغته الأم عن ثقافته يكون واثقاً وأكثر تعبيراً عن نفسه، والمجتمع الذي يخسر لغته لصالح لغة أخرى يبقى دوماً ناقص القدرة في التعبير عن نفسه ودوماً يعاني سقماً في لسانه ونفسيته؛ ذلك أن قوة الفهم والمعنى لديه ليست عائدة له، بل مكتسبة من الآخر. لذلك؛ تفتقر إلى قوة الجمال، فيعيش شخصية تلك المجتمعات كنوع من الانفصام؛ لأنه يكون منقسماً بين الشخصية المستعمرة التي تريد التشبه بالآخرين وبين الشخصية الأصيلة التي تقاوم لتحافظ على أصالتها.
الخطر في هذه المسألة هو أن عملية الصهر الثقافي هذه؛ تتحول مع الزمن إلى حالة صهر ذاتية فيتم التعامل معها كحالة لا بد منها. حتى أن البعض يعملون على تسويقها بشكل رهيب وكأن التخلي عن ثقافتهم الأصلية هو تطور ليس إلا. إننا كمجتمع ومع الأسف نعتبر من أكثر المجتمعات في المنطقة التي تعرضنا لهذا الشكل من الإبادة. منع اللغة، منع الثقافة، منع المؤسسات العائدة للكرد؛ جعلتنا نبذل كافة الجهود للتحول إلى ملحق أو امتداد لثقافة النظام في سوريا، فالعمل في مدارس النظام كان امتيازاً، وخدمة ثقافة النظام كان تحضرا؛ ذلك أنه بقدر ما تكون مطيعاً وخدوماً؛ ستحظى بحظوة أكبر وشأن أعلى.
أن النقاشات التي تدور حول منهاج الإدارة الذاتية لا يمكن أن نفصلها عن هذا الواقع. فهناك من يفصل اللغة عن الثقافة والعلم عن الأخلاق والثقافة عن المعنى. في حين أن المسالة واضحة تماماً وهي أنه هناك ترويج ممنهج لمناهج النظام ولمدارسه التي عملت ولعقود على تقزيم شخصيتنا وإنكار هويتنا وتاريخنا ولغتنا. أنني أتابع و باستغراب وبأسف بعض (الأكاديميين) الذين يمدحون المستوى العلمي لمناهج النظام، وأسألهم كيف يمكن أن ننسى درس التاريخ الذي كان ينكر تاريخنا، أن ننسى درس الجغرافيا الذي لم يكن لنا مكان فيه، درس القومية الذي كان يعمل على صهرنا، ودرس اللغة العربية الذي كان يعمل على أن ننسى لغتنا. هل يمكن (للأكاديميين) أن يشرحوا لنا علمياً ما هي آثار فرض لغة وتاريخ وتراث شعب ما على شعب ومجتمع آخرين وشخصية الفرد في هذا المجتمع؟!.
المنهاج هام بالطبع واللغة مهمة لأنهما يشكلان سوياً ذهنية الإنسان وعالمه. لذا؛ فإن النظام وفي كل فرصة يطالب بعودة مناهجه؛ لأنه يرى في عودة هذه المناهج عودة الدولة، عودة البعث. لكن؛ الغريب في الأمر هو أن نخبة من (المثقفين) عندنا يعزفون على نغمة النظام نفسها ويطالبون بالشيء نفسه، عودة مناهج النظام، هل في الأمر صدفة ما؟ أترك التعليق لكم.
إنني واثقة بأنه بدلاً من الترويج لمناهج النظام، لو عملنا وجهدنا على توحيد طاقاتنا من أجل تحسين المستوى العلمي لمناهج الإدارة الذاتية لكنا الآن في مكان آخر أفضل وأكثر تقدماً.