الحدث – القاهرة
جاءت إستضافة الباحثة المصرية في برنامج (شرق وغرب) على قناة (الشرق بلومبيرغ)، للحديث عن “مستقبل التنافس الصيني- الأمريكى، خاصةً في النواحى الإقتصادية وغيرها، وتأثيراته ومدى إنعكاساته دولياً”
فقد جاءت أبرز أوجه التنافس الحالى بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية حين أرسلت واشنطن وعبر إدارتها الحالية بقيادة الرئيس (جو بايدن)، مثله مثل الإدارتين الأمريكيتين السابقتين في عهدى (ترامب وأوباما)، إشارات مضطربة وغير واضحة بشأن ضمان الولايات المتحدة الأمريكية للسلام والإستقرار في منطقة الشرق الأوسط، فالرئيس (أوباما) تردد في التدخل في سوريا، وخلفه الرئيس (دونالد ترامب) الذي إنسحب منها بشكل مفاجئ، مما أثار مخاوف وشكوك النخب القيادية في المنطقة إزاء الإلتزام الأمريكى بأمن (الملاحة البحرية وحماية الممرات المائية في الإقليم).
وفي ظل الوضع الراهن وتزايد الشكوك حيال الموقف الأمريكى، إتجهت دول الإقليم نحو القوتين العالميتين الأخريين، وهما: (روسيا والصين)، بتفعيل الزيارات الرسمية على أعلى المستويات، وإرساء قواعد الشراكة في مجالات متفرقة.
ونجد أن روسيا بطموحات إعادة بناء قوتها العالمية، وبتواجدها العسكرى في سوريا وليبيا ، فضلاً عن ترابط إقتصادها مع دول مثل مصر والجزائر والسعودية (عبر منظومة أوبك بلس)، نجحت في ترميم علاقاتها الثنائية مع دول المنطقة، وإبراز ذاتها (كوسيط محايد) في نزاعات الإقليم. كما أن مساعدتها لبشار الأسد ضد الضغوط الغربية مكنتها من تحقيق أهداف عدة، كان أهمها بالنسبة لدول المنطقة ظهورها كقوة تراعى السيادة الوطنية، وتسعى للحفاظ على حالة الوضع الراهن، علاوة على تزايد إهتمام بعض الدول بالسلاح الروسى (كالسعودية وقطر ومصر)، وأخيراً، الدفع بعضو حلف الناتو، وهي دولة (تركيا)، ضد مصالح الولايات المتحدة والحلف.
وفي سياق مواز، فإن الإنفتاح على الصين كان دافعه – فضلاً عن الإشارات الأمريكية المضطربة- مبادئ (عدم التدخل) وإمتثال (الحياد)، كأسس يتبناها الجانب الصيني في سياسته الخارجية. فالصين لم تتخذ موقفاً متحيزاً في التنافس الإقليمى بين (السعودية وإيران)، كما أنها لم تحد عن موقف الحياد تجاه المعضلة الفلسطينية-الإسرائيلية، وفي المقابل، فإن مبادرتها المعروفة بـ (الحزام والطريق) ترغب دول الإقليم في إقامة الشراكات مع الصين، والدخول في حيز النطاقات المستفيدة من مكاسب هذا التمدد الإقتصادى.
وقبل الإنتقال إلى الإتجاه الآخر في هذه المعادلة، نشير إلى تزايد القلق الأمريكى من تغلغل القوة الإقتصادية الصينية في الإقليم، لاسيما مع الحلفاء والشركاء المعتادين. وستناقش الباحثة المصرية عدداً من المحاور التالية:
– أولاً: تحليل القلق الأمريكى من علاقات الصين الشاملة بالشرق الأوسط خارج نطاق التجارة
إن تعميق علاقات الصين مع دول الشرق الأوسط خارج نطاق التجارة لابد وأن يقلق الولايات المتحدة، خاصةً وأن إدارة الرئيس الأمريكى (جو بايدن) إتخذت مؤخراً خطوات لتقليل الإهتمام بالمنطقة، وبالتالى فتح الباب أمام الهيمنة الصينية. وقال مسؤول كبير سابق في الأمن القومى ومستشار مقرب من “بايدن” لصحيفة بوليتيكو الأمريكية، بأنه: “إذا كنت ستصنف المناطق التي يعتبرها “جو بايدن” أولوية له، فإن الشرق الأوسط ليس ضمن المراكز الثلاثة الأولى”، وأضاف: “إن مناطق أولويات بايدن الآن هي منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ثم أوروبا، ثم نصف الكرة الغربى، وهذا يعكس إجماعاً بين الحزبين على أن القضايا التي تتطلب الإهتمام الأمريكى قد تغيرت مع عودة المنافسة بين القوى العظمى، وهما (الصين وروسيا)”.
ومع تنافس الصين على المزيد من النفوذ الدولى لتصبح أكبر قوة في العالم بحلول عام ٢٠٤٩، عسكرياً وإقتصادياً وتكنولوجياً وسياسياً، فمن المرجح أن يصبح الشرق الأوسط حاسماً، سواء أعطته الولايات المتحدة الأولوية أم لا؟
– ثانياً: تأثير علاقة إسرائيل مع الصين على مستقبل التواجد والنفوذ الأمريكى في الشرق الأوسط
تستعرض الباحثة المصرية هنا بلمحة سريعة، رد الفعل الأمريكى تجاه (علاقة إسرائيل مع الصين)، فإسرائيل التي تعول على القوة الأمريكية في ضمان وجودها وأمنها، تنامت شراكتها الإقتصادية مع الصين من خطط بناء محطة تحلية، بالإضافة إلى مشاريع التواجد الصيني في (ميناء حيفا) الإسرائيلى، الذي يمثل مرفأً دورياً للأسطول البحرى الأمريكى السادس، وصولاً إلى إتفاقيات مستقبلية للإستفادة من تقنية (شبكات الجيل الخامس) 5G الصينية.
– ثالثاً: تأثير الإتفاقية الإستراتيجية الإيرانية – الصينية لمدة (ربع قرن) على تغيير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط على حساب الولايات المتحدة
إن توقيع الإتفاقية الإستراتيجية بين الصين وإيران، من المتوقع معه أن يعزز من نفوذ إيران في مفاوضاتها مع (إدارة بايدن) بشأن إستعادة مفاوضات الإتفاق النووى الإيرانى، ومن المرجح أن توفر الإتفاقية على المدى الطويل لإيران فرصة للإفلات من قبضة العقوبات الإقتصادية والإستراتيجية التي خنقت إقتصادها وأدت لتحجيم نفوذها السياسى في أنحاء الشرق الأوسط، في الوقت الذي تتمسك فيه الصين أيضاً بعلاقاتها الجيدة مع دول الخليج المتنافسة مع إيران، والدليل على ذلك هو زيارة وزير الخارجية الصيني (وانغ يى) إلى المملكة العربية السعودية وتركيا وإيران والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان والبحرين، تزامناً مع توقيع الإتفاق مع إيران.
وترغب الصين من وراء إبرام تلك الإتفاقية مع إيران في تعزيز نفوذها في الجيوب العميقة بالشرق الأوسط، كما أن الإتفاق الصيني مع إيران، يستهدف تعزيز طموحات بكين الإقليمي
ة والعالمية كقوة رائدة، ويقوض جهود واشنطن في الوقت ذاته لإبقاء إيران معزولة، نتيجة لدعم بكين بشكل أفضل للجانب الإيرانى قبل أى مفاوضات نووية مستقبلية بشأن إيران مع إدارة بايدن. فالصين هنا ترغب في إثبات أنها لا غنى عنها في حل العديد من المشاكل الشائكة في العالم كوسيط عادل، في الوقت الذي تصور فيه عدداً من دول الشرق الأوسط وتنظر للولايات المتحدة الأمريكية على أنها اللاعب العالمى الأكثر إشكالية في المنطقة والعالم.
مع ضرورة الإشارة، إلى وجود معارضة في الداخل الإيرانى ذاته للإتفاق مع الصين، وإتهام المسئولين الإيرانيين بإخفاء التفاصيل وسط مخاوف من أن طهران ربما تقدم الكثير وتبيع موارد البلاد إلى بكين.
– رابعاً: إنعكاس إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية (الإتجاه شرقاً ضد الصين)، وإستراتيجية الصين (الإتجاه غرباً ضد واشنطن) على الشرق الأوسط
إن منطقة الشرق الأوسط محطة بإستراتيجيتين متضادتين، تعبران عن فعل ورد فعل، والتي تتمثل في إستراتيجية الولايات المتحدة (الاتجاه شرقاً)، والرامية إلى إحتواء التمدد الصيني المطرد، وما نجم عنه من إستراتيجية صينية، تعرف بـ (الإتجاه غرباً)، بهدف خلق تعقيدات سياسية في مناطق نفوذ الولايات المتحدة المعتادة، للحد من إبتزازاتها وكبح خططها لتطويق الصين.
وعلى الجانب الآخر، فإن إنعكاس التنافس الصيني – الأمريكى على دول المنطقة يتحرى أولاً المبادئ والمعايير، التي تؤطر النظم السياسية الداخلية والسياسة الخارجية لكلاً من الدولتين، فالولايات المتحدة بأبعادها الفكرية والمعيارية ترى في إنتشار الديمقراطية حلاً ناجعاً لصراعات المنطقة، وسبق أن حاولت غرس النظم الديمقراطية الغربية في العراق وأفغانستان دون جدوى ملموسة. وبالتالى، تعى المنطقة تماماً بموجب خبراتها التاريخية في التعاطى مع الشريك الأمنى الأمريكى، ماهية المبادىء الليبرالية التي يحملها، وتتحوط تجاه مساعيه في تغيير نظم المنطقة والتدخل في شئونها الداخلية، لاسيما مما يمكن إعتبارها (إنتهاكات لحقوق الإنسان).
وبرغم تأثر دول المنطقة سلباً من جراء المناورات الدبلوماسية التي تفرضها أيديولوجية الإدارات الأمريكية، على وجه التحديد الديمقراطية، إلا أن الشراكة الأمنية والعسكرية مع الطرف الأمريكى لا يمكن أن تضاهي ببديل، ولن يكون بمقدور الدول الشركاء في المنطقة أن تتخلى عن الإمتيازات الأمنية التي تحظى بها، لتذهب وتمكن قوة أُخرى مثل (الصين) من إحلال مقدراتها العسكرية المقوضة لمستويات النفوذ الأمريكى. وربما كان بوسع بعض الدول إستخدام العلاقة مع الصين كورقة ضغط على الجانب الأمريكى، لكن الميل التام تجاه (القوة الشرقية) مفاده “إشهار العداء للقوة الأمريكية، وبالتالى خسارتها كحليف أمنى”.
ونجد أن سياسة (الإتجاه غرباً)، هي محاولة صينية لمجابهة إستراتيجية الإحتواء الأمريكية، المعروفة ب (الإتجاه شرقاً)، وهنا نجد أن الصين حذرة جداً في تفعيل قواها العسكرية والسياسية في مناطق النفوذ المعتادة للولايات المتحدة. لكن المؤشرات الراهنة تشير بتطور في السياسة الخارجية الصينية، لاسيما تجاه الشرق الأوسط، والإتفاقية الأخيرة الموقعة مع إيران خير شاهد على ذلك.
لذلك، نجد أن إتفاقية الصين وإيران لم تقتصر فقط على جوانب إقتصادية، بل إنها بحسب البنود المسربة، تشتمل على إتفاقيات تخول الصين تشييد موانئ يسهل إستخدامها كقواعد عسكرية، بمحاذاة الممرات المائية ذات الأهمية البالغة لتدفق شحنات الطاقة للأسواق العالمية.
– خامساً: الهوة أو الفجوة القيمية والأيديولوجية الأمريكية – الصينية وتأثيراتها على العالم
تزايد التنافس الأيديولوجى بين الصين والولايات المتحدة بسبب (إختلاف نهج القيم الشيوعية الصينية عن النهج الليبرالى الأمريكى). ولذا، فإن “إنقلاب ميزان القوى بين القوتين خلال جيل أو جيلين يشكل اليوم التحدى الأكبر للسياسة الدولية”، كما ستكون له تبعاته على الإستقرار والأمن الدولى، ومنه ستنبع إعادة سياسة (إعادة تشكيل النظام العالمى).
ففي الوقت الذي تشكل فيه الصين القوة الصاعدة إقتصادياً في العالم، نجد أنها قد إستخدمت العولمة للتمدد والإنتشار. ويمكننا الإشارة هنا إلى خطاب الزعيم الصيني (شى جين بينغ) في منتدى دافوس، في يناير ٢٠١٧، أى بعد عام من وصول الرئيس الأمريكى السابق (دونالد ترامب) إلى البيت الأبيض، قدم الرئيس (شى جين بينغ) نفسه على أنه (راعى العولمة والتبادل الحر والتعاون الدولى)، وذلك في إطار (إقتصاد منفتح ومزدهر)، محذراً في الوقت ذاته من أن العولمة “سلاح ذو حدين”، وبأنه “لا أحد يمكن أن يخرج منتصراً من حرب تجارية”. وما حذر منه الرفيق (شى جين بينغ) قد تحقق سريعاً بعد ذلك.
والدليل على ذلك، هو أن الحرب التجارية والإقتصادية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية قد أصبحت واقعاً معاشاً، وعشرات مليارات الرسوم المفروضة على البضائع المستوردة من الجانبين والقيود المفروضة، خصوصاً أمريكياً والإتهامات بسرقة البراءات، كل ذلك يدل على عمق المخاوف الأمريكية من الصين ومن مستقبل التنافس معها.
– سادساً: تحليل إحتمالية تفوق “النموذج الشيوعى الصيني” كبديل عن “النموذج الغربى”
تسعى الصين لأن تكون “بديلاً” عن “النموذج الغربى”. والأدلة على ذلك كثيرة، كتأسيس الصين لبنوك منافسة للبنوك الغربية والنقدية والمصرفية الدولية، مثل: “البنك الآسيوى للإستثمار في البنية التحتية”، و “البنك الآسيوى للتنمية”، والذي غرضه منافسة الصين لكلاً من (البنك الدولى، صندوق النقد الدولى)، لإزاحة الهيمنة الأمريكية من على قمة النظام النقدى والمصرفي والمالى الدولى.
وتعتمد الصين على البنوك الحكومية الصينية نفسها كأذرع مالية للتمويل والإقراض دولياً، كما تعتمد الصين على شركاتها الكبرى أمثال “هواوى” و “هاير” أو “لينوفو”، وعلى قدراتها الإستثمارية الضخمة لإختراق أصعب الأسواق في العالم.
والأهم من ذلك وبعكس الغربيين، فإن “النموذج الصيني” لا يأخذ بعين الإعتبار الواقع السياسى، إذ يتبع مبدأ “عدم التدخل”، وبالتالى، فإن إستثماراته “غير مشروطة”، وهذا ما يلاقى تجاوباً في أفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. ومقابل ذلك، تطلب الصين أحياناً دعماً دبلوماسياً في عدد من المؤسسات الدولية لتمرير سياساتها، فبينما إنسحبت واشنطن من (منظمة اليونسكو) وهددت بالإنسحاب من (منظمة التجارة الدولية، ومنظمة الصحة الدولية)، فإن الصين بدأت تقوى حضورها فيها كما حدث عام ٢٠١٩ عند إنتخاب مدير عام لمنظمة الزراعة الدولية، حيث جاءت أصوات الدول الأفريقية لصالح المرشح الصيني الذي فاز بالمنصب على حساب المرشح الذي كانت تدعمه واشنطن.
ومن هنا نخلص إلى أن الدخول الصيني إلى أزمات الشرق الأوسط، خاصةً ما يتعلق بالتوترات الإيرانية الخليجية، وإن كان الهدف المباشر منها هو (تكريس دور لبكين من بوابة شراكتها الإستراتيجية مع طهران في الإتفاق النووى والضغط على واشنطن)، إلا أن الهدف لا يبتعد عن الإشتباك المحتدم بين الصين وبين واشنطن على خلفية الطموحات الإقتصادية لبكين وتعزيز مواقعها لتوسيع مشروعها “حزام واحد، طريق واحد” الذي يشمل (١٩ دولة في الشرق الاوسط)، والذي يشكل أحد أبرز الهواجس ومصادر القلق الإقتصادى للإدارت الأمريكية المتعاقبة، والذي توجه إتهامات أمريكية خفية إلى بكين من خلاله بمحاولة (نشر قيمها وأيديولوجيتها الشيوعية في العالم على حساب القيم الليبرالية الأمريكية).