الجمعة 22 نوفمبر 2024
القاهرة °C

عينات الادب وجدلية النهايات

وسيم بنيان

 
كتب حسين عجة:[اذا كانت الفلسفة،منذ توهج وتبلور أفق ممارستها المتميزة على يد أفلاطون قد دشنت ورسمت حقلا للفاعلية الفكرية لم تعهده من قبل الأشكال المختلفة للتأمل الإغريقي المتصل بإشكالية الكينونة،أو بموقف الكائن ضمن نطاق المدينة المفتوحة على كل العواصف والاتجاهات(أثينا الديمقراطية)،وكذلك حيال الممارسات الإبداعية التي كانت سائدة في حينها(العلم،الفن،السياسة الداخلية،والخطاب الحبي)،فإنها،بالرغم من ذلك،لم تدع ولم تطرح نفسها يوما كونها هي بالذات قادرة على تملك حدس والهام المبدع ولا إنتاج ما يضارع رؤيته إزاء العواطف والانفعالات التي تتنازع الذات الإنسانية.لقد حدد أفلاطون مجال النشاط الفلسفي عبر حركة نوعية،أو خطاب مفارق لباقي الخطابات الأخرى،يرتكز في المقام الأول على حب وتعلق الفيلسوف بكل ما ينتجه العصر الذي يعيش فيه من حقائق،أو ما تقدمه تلك الميادين من كشف جديد]1
 
من المناسب الانطلاق من هذه الفقرة المسبوكة باحتراف،لرسم ملامح هذا المقال استنادا الى معطياتها الدقيقة واهمها تحديد المجال الفلسفي بكونه يرتكز في المقام الأول على حب وتعلق الفيلسوف؛ويمكننا هنا إضافة الأديب والناقد/القارئ باعتبارهما ضمن المعترك الفكري التنظيري الذي تشغله الفلسفة ايضا؛بكل ما ينتجه عصره من حقائق وما تقدمه تلك الميادين من كشف جديد.ونلج من هاتين الجملتين إلى عمق جدلية (البداية/ النهاية)،موضوعة المقال ومسرح فصوله،ولتكن البداية مع الأدباء.قدم خضير ميري قراءة2،لبعض وجوه هذه الجدلية. استهلها بفقرة دريديه،لها مغزاها الكبير على مجمل تحليله:(إنها فريدة في كل مرة نهاية العالم).إذ يختزل جاك دريدا هنا،كل النهايات والبدايات،عبر تيمة التفكك الكلاسيكي للتشكيل الحداثوي.ودريدا حسب ميري، مستغرق بمفهوم الهدم الذي غيره شخصيا إلى مصطلح التفكك،وفق صياغته الحديثة. ويشير صاحب(الذبابة على الوردة)3 إلى بعض مشاهدها الجدلية من (موت الله*)،(موت الإنسان)،(موت المؤلف) ليختم تلك الميتات بالميتة التي تستند اليها دراسته،(موت الفلسفة).بفكر ما بعد فلسفي. فيختزل وصفها كاتبا:(الميتات الناضجة التي حولت نهايات القرن العشرين إلى نهايات معرفية كبرى،و مراجعات سلبية، وانتحارات تصورية.اسفرت إلى رفع الحد الفاصل بين (المعرفة/الوهم/ الحقيقة/التمثل)،وامتزاج (العيني بالإشهاري) كما هو حاصل في التداعيات الأخيرة لفكر ما بعد الحداثة).
 
ويثير إزاء تيمة دراسته،أسئلة مهمة عبر محاولة فحص،وتتبع المحاور المعرفية الكبرى،في اللعبة الفلسفية التي أفضت لذلك الموت.ونجدها،كما يقول،في كامل نضجها لدى(جيل دولوز)و(ميشيل فوكو)،الذي دق المسمارالاخير في نعشها. ليشرع من ثم طارحا تساؤلاته التي يحاول الإجابة عن بعضها من جزء دراسته الاول. وبما أن هذا المقال ليس مكرسا للميتات/ النهايات،المذكورة في مقال كاتب (صحراء بوذا)4،سيسعى إذاً لدخول عوالم تلك الجدلية من مشاهد غير التي ذكرها مؤلف(احلام عازف االخشب5) وبؤرة الميتة هنا تتعلق بنهاية مفتوحة كمقبرة ستدفن كل شيء،مثلما توالت دلالات ذلك تلوح في الافق…
 
لبنات:
 
بمراجعة بسيطة لسيرة البطل الاجتماعي الذي شخصته الكتب النقدية والأدبية المشهورة والمغمورة،منذ زمن طويل.سنلاحظ انها اختزلت جل أفكار وإرهاصات ونوازع البطل الكلاسيكي.في عينات واضحة المعالم ومعلومة الأسماء والكنايات والدلالات.ففي تراثنا نجد صورة (جحا) و (بهلول).وكذلك ما ورد في بعض العينات التي عرفت بأدب (الشاطر والعيار) رجوعا ل(علي بابا) الذي تحول لاحقا الى(روبن هود) في الادب السردي العالمي.غير ان ما يلاحظ على تلك العينات انها رصدت عينات ظاهرية نوعا ما،وان كانت نادرة وفريدة،فهي اقرب للبعد المادي الجسدي تشخيصا،ويكاد البعد النفسي الفلسفي،وليس التحليلي العيادي فهذا علم حديث،ان يكون مهملا.رغم ان تلكم الشخوص حفلت بثراء فريد،يؤهل المتأمل لاستنباط الكثير من عالمها الباطني،سلبا وايجابا.ولعل الاستثناء الابرز هو(سايكولوجيا البخيل) كما ابدعها الجاحظ مبكرا،وصولا لعينات الجنون كما ارخ لها بدقة النيسابوري في(عقلاء المجانين) وكذلك بعض ملاحظات قيمة جاد بها يراع ابو حيان التوحيدي.لكن تلك البذور الاولى لم تتشكل وتصل الى مرحلة الظاهرة،ألا بعد نضجها على نار هادئة،وبعد ان بلغت الذروة معلنة نهاية عصر فكري قديم،نصبت خيمة عزاءه علانية،ليموت رغم انفه.وبعد الدفن انبثق البعد (السيكولوجي)وصار ينمو أدبيا وعبر نتاج وتشخيص الرواة غالبا.وتطل البداية،كما يبدو لنا،مع اديب له ثقله المميز على الصعيد العالمي،وكانت منجزاته الروائية ولاتزال،مورد اهتمام وعناية،كونها كتبت بخبرة وبراعة مذهلة.إضافة لتشخيصها العميق والدقيق لبواطن وخفايا النفس البشرية.وقد ترك لنا هذا الأديب عينات مهمة سجلت أول ملامح الحياة الطفولية بعد ميتة الملامح الكلاسيكية الكهلة.فالوالد الشرعي لهذه الطفولة الحديثة فيدور دستويفسكي انتج المقامر و الأبله على المستوى الفردي، والاخوة كارامازوف والجريمة والعقاب على المستوى الجمعي.ويأخذ على هذه
 
العينات رغم براعتها،بأنها أيضا تقترب من ضفاف المشاع والمشتهر،من بعض الوجوه.فمقامر فيدور انخرط في إدمان القمار دون استراحة،كي يطحن بين جناحي الربح والخسارة،قمح الإخفاق والعذاب الحبي.فوجد الخلاص من الغثيان،والتطوح الذهني،بالدخول في نفق الانتحار المفاهيمي حيث لا فرق بين السالب والموجب،والمفيد والضار.فالانسان وجود بلا معنى،وفق فلسفة السائد،ليقوده طرف النفق الآخر الي هاوية كادت ان تجهز عليه،قبل ان يجعل منها فرصة للنهوض مجددا.و لانعدم وجود نزعة التمرد حتى وان كان على حساب الذات في الفكر القديم،واوضحها تجربة گلگامش،رغم اختلاف الشكل المقترح،لاعلان ذلك التمرد، بين عينة واخرى.وتوالت المحاولات لرسم البطل الاجتماعي الحديث،وقد جاءت اكثر دقة وتشخيصا للبطل الفردي الذي انتفت معه الحاجة الى ذكر مثاله الاجتماعي.فليس من حاجة لمقامر كمثال فردي،ولا كارامازوف كمثال جمعي.لان العينة الجديدة تستبطن كل إرهاصات المجتمع ونوازعه في البطل اليتيم.الذي يمثل تلك الصورة المتفرقة خير تمثيل،في زمكان واحد.كان ظهور هذا البطل قد تشكل بما يقترب من نهايته،وفق ادراكنا،مع (اللامنتمي)،وما بعده،و (سقوط الحضارة) عبر العينات التي شخصهــــــــــــــا (كولن ولسن). ومع هذه العينات الولسونية كانت النهاية المميتة للتي سبقتها،فظلت في قبر نهايتها،حتى بروز الميتة(الفوكاياميه)التي أعلنت نهاية التاريخ.لكن همنغتون عاود اشعال شمعة ميلاد مومياءات خطر لفوكياما انها انقرضت،لتنافس على هذه النهاية،عبر صراع عريق سمي بصراع الحضارات وفق ذائقة صومائيل.وتشكلت هذه العودة في كواليس البيت الليبرالي السائر بأيدلوجيا وحشية ربما كانت مسبوقة من بعض الوجوه،لكن حداثتها الدسمة تكمن في التغليف اللامع،والنعومة الخبيثة، والاساليب المبهرجة الخاطفة للانظار بشكل فريد وغير مسبوق البتة.وها نحن نعيش ميتاتها،المختلفة عن مجمل الحقب المائتة في مقبرة الحياة والتاريخ عبر مسارهما الطويل…
 
وباستقراء الواقع الذي انبثقت منه أول عينة اوربية مميزة (لامنتمية) تتمظهر الظروف والجدليات والإشكاليات الحضارية الحديثة. وقد بدأت من حينها تتجه نحو مسالك رهيبة،تتباين تماما عن عصر إنتاج العينات الكلاسيكية.من خلال ما طرأ على الواقع من انجازات فكرية وعلمية واجتماعية لاحصر لها.طحنت الأفراد في قرصي رحاها،فتناثر دقيق الأحداث متنوعا،لتتعملق العينات التي نظر لها ولسن،وتقترن بأخرى من(غريب كامو)و(وحش زولا) وغيرهما.وقد مر زمن طويل منذ عصر العينة الأخيرة وحتى عصرنا هذا.الذي شهد تغييرات متسارعة على اكثر من صعيد احتفظت ببعض العينات الكلاسيكية،وأفرزت فوقها عينات اشد تعقيدا،واكثر غموضا.يكاد المجتمع لايشعر بها،وان شعر فهو يسحق وعيها العالي،وحساسيتها المفرطة.ومثالها الابرز روايات(هاروكي موراكامي)6.وهذا التعامل المجتمعي المفرط مع هذه العينات المعاصرة،ولد نوعا من غربة/اغتراب فاق كل التنظيرات السابقة،فلابد اذن من اجترح اسما مميزا لتشخيصها،ولم اجد عنوانا لوسم هذا الاغتراب المعاصر انسب من:(غربة هدهدية)7
 
 
1- في كتاب (بروست والاشارات) جيل ديلوز،ترجمة حسين عجة،منشورات ادب فن.
 
2- دراسة بعنوان(موت الفلسفة) نشر خضير ميري الجزء الاول منها،ولم يمهله الموت اكمالها.
 
3و4و5 رواية وكتابان على التوالي،لخضير ميري.
 
* موت الله هو موت فلسفي،يتوجه للصورة التي يكونها الناس عن اي اله.ولا تعني موت الله بما هو الاله كما فهم الكثير من الناس من هذه العبارة،منذ ورودها في (زرادشت نيتشة).
 
6-تحفل الشخوص في روايات موراكامي بحساسيات غريبة،ومزاجيات مربكة،مع افراط بزخم المشاعر والعواطف التي تبدو عبثية.كما تبرز الشخوص بروحية معطوبة بالكامل،مثلما يتجلى واضحا في(الغابة النرويجية).
 

7-يرى بعض العرفاء ان العذاب الشديد الذي توعد النبي سليمان ان ينزله بالهدهد،كان يتلخص في ان يحبسه برفقة الحدأة! في اشارة الى جحيم العيش في بيئة تخالف ثقافة و مزاج وذوق الكائن،من الالف للياء.وهذا ما نعنيه بالغربة الهدهدية.

to top