السبت 23 نوفمبر 2024
القاهرة °C

التدريب والثورة الذهنيّة

محمود كالي

تعريف ظاهرة ما، يبيّن أسلوب التقرّب منها فالتعاريف الصحيحة والأسلوب السليم يؤدي إلى الحلول الصحيحة، بينما التعاريف الخاطئة لن تجلب سوى مزيداً من التعقيد وعدم الحل.

يمكننا تعريف التدريب لغةً من الفعل درّبَ أي مرّن على فعل الشيء واكتسب من ذلك مهارة أو قدرة ما، أما في الاصطلاح هي عملية يكتسب من خلالها الفرد والمجتمع المهارات والقدرات عن طريق ممارسة تطبيقات وتقنيات معينة.

التدريب عمل أساسي في العمل الحياتي

للتدريب والتعليم دور مصيري في تنفيذ الأهداف الاستراتيجية لكل الأنظمة عبر مختلف مراحل التاريخ، بدأ التدريب والتعليم مع إدراك الإنسان لذاته وظهور الوعي عند ارتقاء دماغه في مرحلة الهوموسابيانس.

التدريب عمل أساسي للعلاقة الجدلية بين الفكر والجانب العملي الحياتي للإنسان والمجتمع الإنساني، الذي هو حصيلة تطور تدريجي دام ملايين السنيين واستمرارٌ لعالم الأحياء الأسبق منه، وثمرة عالم عقلي وعاطفي مذهلٌ للغاية اتسم بتكامل كُلي لهذا فهو كونٌ مدرك لذاته.

باشرت البشرية وجودها اعتماداً على المجتمع الطبيعي لبداية وجود المجتمع الذي تمحور حول المرأة الأم وثقافتها الاجتماعية، وبتوسع التنظيم الاجتماعي زماناً ومكاناً واكتسابه بُعداً نوعياً وكمياً مع تطور اللغة، من لغة الإشارة صوب اللغة الرمزية تطور الفكر الإنساني وتوسعت إدراكاته الذهنية، ولعل أعظم ثورة في التاريخ هي ثورة اللغة، وبتطور اللغة الرمزية أصبح التفاهم والتواصل الاجتماعي أفضل وإمكانية نقل الخبرات والتجارب للأجيال اللاحقة أسهل عبر التدريب والتعليم.

 وبنمو القوة الفكرية للإنسان العاقل الناطق وتوفر المناخات المعتدلة تم التمهيد للثورة النيوليتية ثورة الزراعة، القرية أكبر الثورات جذرية وغوراً في تاريخ البشرية وفتحت السبيل أمامَ تطورات عظيمة في ميزوبوتاميا والهلال الخصيب، فقد تخطت البشرية الشكل الكلاني الضيق نحو شكل ومجتمعية أوسع وأكثر رقياً في آفاقه الفكرية، أي الشكل القبائلي وتعد القبيلة تطور ثوري عظيم بالإمكان نعت الثورة النيوليتية بالثورة القبائلية أيضاً، وقد بدأ التمايز اللغوي والثقافي إلى جانب العلاقات الاجتماعية الشبه مستقرة بالنماء والازدهار على أرضية ثقافية وطيدة تكونت قبل الحضارة السومرية بآلاف السنيين.

المرأة أساس التدريب والوعي والتعليم المجتمعي

وكانت عملية التدريب والتعليم مهمة مقدسة تقوم بها المرأة الأم ضم بنية ذهنية اجتماعية متكاملة طورت المرأة الأم عبر التدريب والتعليم العلاقات الاجتماعية والوعي الاجتماعي، فكانت الابتكارات وتطوير أدوات الإنتاج في شتى مجالات الحياة فكانت ثورة ثقافية وذهنية عظيمة، وبتطور الهرمية كانحراف ذهني لمناهضة قيم وثقافة المجتمع الطبيعي فكل الذهنية المنحرفة نتاج عقل وعمل الرجل القوي الماكر.

والهرمية ثمرة فصل المجتمع الطبيعي (الأخلاقي والسياسي) عن جوهره الكومينيالي، وهذا الانحراف الذهني تمأسس تزامناً مع ظهور الكتابة، فكانت المهمة الأولى لها إنشاء الهيمنة الذهنية عبر التدريب والتعليم كأول عمل يقع على عاتق الحكام، والاحتكارات الاستغلالية طيلة التاريخ حيث ما من غزوٍ أكثر تأثيراً من غزو الأذهان.

استخدم السومريين التدريب والتعليم كأداة تخريب ضد المجتمع وكسر إرادته الحرة واستعباده، هذه الأداة التي تكونت في معابد سومر تُطبق اليوم على يد الدولة القومية في المدارس الابتدائية وحتى الجامعات، وتستخدم وسائل الإعلام وحتى دور العبادة في فرض الفكر السيء لإبعاد الفرد عن المجتمع وجعله غريباً، وخلق مجتمع بدون إرادة يقبل العبودية. لأن استراتيجية التدريب والتعليم السلطوي والدولتي منذ سومر وحتى اليوم هي خلق العبودية في الأذهان عبر كسر إرادة المرأة واستعبادها، وتشتيت وحدة وجوهر المجتمع الكومينيالي المتكامل فأنشأت التدريب والتعليم التابعة لها لتقوم بخدمتها وتحافظ على مصالحها.

استغلال العلم للتحكم بالمجتمعات وتعزير الحكم

احتكارات السلطة ورأس المال قامت وتقوم على الدوام بحشر الأذهان بالعلوم وما يسمى بالمعرفة، في قوالب أيديولوجية دوغمائية تضمن مصالحها وتعزز تحكمها بالمجتمع والبيئة، تجعل من فئة فوقية بالمجتمع جوهراً وتنشأ كافة الفئات الأساسية في المجتمع. نستطيع القول بأنها إبادة للمجتمع الإنساني، فالعلم عندما يغدو سلطة يفقد حريته ودوره التنويري المفيد، لأن ذهنية السلطة والدولة التي تربعت على ميراث آلاف السنين للمجتمعات البشرية قامت باستثمار العلم والمعرفة (الخزينة الإنسانية المدخرة)، فكان احتكار العلم والمعرفة على يد الحكام الطغاة ليستخدموها قوة على شكل انحراف بعد ان جردوا العلم عن الأخلاق، هذا الانحراف تعمق أكثر فأكثر في المرحلة الرأسمالية بالاستناد على الأيديولوجية الليبرالية (عقل وفكر الرأسمالية) عملت على فصل الفرد عن المجتمع بشكل أعمق من كل المراحل السابقة وأساليب الخداع والعلموية المتطورة جعلت من نفسها شراباً لذيذاً يتناوله الجميع دون أن يدري حتى يفقد المجتمع عقله وتفكيره ويتأقلم معه.

الرأسمالية استثمرت العلم بشكل مذهل وتحكمت بالمجتمعات بشكل أوسع وأعمق باستراتيجيتها التدريبية والتعليمية لخلق الفرد الأجوف اللامبالي بالقواعد الأخلاقية الاجتماعية للقضاء على أدنى مقومات التماسك ووحدة المجتمع.

وباسم الحرية والديمقراطية تغزو المجتمعات وتقزمُ الحقائق التاريخية للشرق الأوسط بعد تشويهها، وتصنع شخصيات فارغة في فكرها وجوهرها عديمة الإحساس والمسؤولية وهي لا تملك أدنى درجات الإرادة عبر تسطيح الوعي وبث كم هائل من المعلومات والصور التي تهدف لإلهاء وإثارة العواطف والغرائز، وباسم الحرية تقوم بخلق فرد ثرثار ومتكبر ينكر مجتمعه وبيئته المقربة منه.

ثقافة المجتمع الطبيعي شُتِّت جراء الهجوم المستمر لأنظمة الهيمنة العالمية عليها، في كل مراحل التاريخ، وعدم نجاح حركات المقاومة والتمرد التي خاضت نضالات مشرّفة وكفاحات عظيمة، وقدمت التضحيات الجسام لتصحيح المسار التاريخي المنحرف، وإعادة قيم المجتمع الطبيعي، بدءاً من حركات النبوة إلى سبارتاكوس وصولاً لثورة

أكتوبر الاشتراكية في روسيا. لكنها جميعا لم تفلح في إنشاء نظامها البديل لأن استراتيجيتهم التدريبية والذهنية لم تتجاوز نطاق النظام المهيمن القائم، وعدم تحليلهم ظاهرة السلطة والدولة بشكل شامل وسليم، وبالتالي عدم رؤيتهم للطابع السلطاني للسلطة وعدم التمكن من تكوين البدائل. فأن قيّمنا الحركات النضالية المقاومة للنظام المهيمن، سنرى بأن ذهنيتها ووسائل نضالها مشابها لذهنية ووسائل النظام الذي ناهضوه، لا تكفي المقاومة بمفرها لأجل كسر شوكة الهيمنة وإيجاد بديل لها بل تستوجب التحلي بمهارة إنشاء النظام المضاد لها.

المفكر عبدالله أوجلان وضع النقاط على الحروف

المفكر والفيلسوف عبدالله أوجلان انطلق من الواقع الكردي المؤلم وتعمق بدراسة كل حركات المقاومة على المستوى العالمي، وأسباب إخفاقاتها ونقاط ضعفها وكذلك قام بتحليل الانتفاضات والثورات الكردية وأسباب فشلها، ليستنتج من خلال الانتقادات للنظام المهيمن الذي أوصل المجتمعات البشرية إلى حافة الهاوية، بنظامها الاستغلالي والاحتكاري المدمر للطبيعة والحياة وتوصل إلى قناعة علمية بأن قوى الحداثة الرأسمالية ليست بمالها أو سلاحها، وإنما في قدرتها الفائقة على التلون وخنق كل الآراء المناوئة لها، وصمم على الانقطاع عن سلطة الدولة (وسماها بميلاده الثالث)، وبدء بالكشف عن العلوم المنحرفة التي لعبت الدور الأبرز في بقاء القوى المهيمنة والمتحكمة بالمجتمعات.

لأن العلم والمعرفة في ظل الحداثة الرأسمالية لم يتطور على أساس حل القضايا الإنسانية، بل من أجل خدمة مصلحة السلطة والاحتكارات، وهذا هو السبب الذي يكمن وراء احتواء عصر العلمانية لكل هذه الممارسات، من حروب ودمار لذلك أعطى الفيلسوف والمفكر عبدالله أوجلان الأولوية للتغيير الذهني عبر التدريب المتواصل والمستمر، واعتبره مثل الماء والهواء والغذاء لا يمكن العيش بدونها، وركز على ضرورة الثورة الذهنية بالخلاص بدايةً من التصاميم والقوالب الذهنية المتخلفة، واحتكارات رأس المال، ويقول بهذا الصدد (من لا يعظم من عالمه الذهني لن يستطيع خوض صراعه من أجل الحرية على المدى الطويل)، لذلك جعل من التدريب هوية مميزة له ولحركة الحرية في كردستان، لأن الواقع المعاش في كردستان والشرق الأوسط لا بل في العالم كله، تحطم من خلال بعثرة ذهنية المجتمع الطبيعي ذهنية الحياة الحرة وتشويهها، من خلال استراتيجياتهم ومناهجهم التدريبية المبنية على أساس الحرب الخاصة، لإيصال الشعوب والمجتمعات البشرية لدرجة عدم القدرة على معرفة ذاتهم ومحيطهم وفقدان الثقة بأنفسهم.

 ويرى المفكر عبدالله أوجلان ضرورة استيعاب المناهج التدريبية البديلة لنطاق المعرفة لدى النظام القائم بأكمله، ضمن أفقها المعرفية كي لا تبقى ناقصة، وبالتالي تنصهر في آفاق النظريات المضادة كحقيقة أولية للنضال الأيديولوجي السليم، وبذلك خلق ثورة ذهنية كبيرة ثورة الحقيقة ثورة نمط الحياة للخلاص من الهيمنة الأيديولوجية للحداثة الرأسمالية ومن نمط حياتها.

ويقول الفيلسوف عبدالله أوجلان في ذلك: (لربح المعركة السياسية لابد من ربح المعركة الفكرية كشرط أولي)، لذلك أعطى أهمية قصوى لتأسيس الأكاديميات الفكرية والمؤسسات الاجتماعية الديمقراطية في كل الساحات، كمراكز تدريبية لتجديد الشخصية المتحررة من ذهنية النظام الحاكم ورفع مستوى الوعي السياسي والاجتماعي لمواكبة روح العصر. وتوصل من خلال إنجازه للثورة الذهنية إلى خلق النظام البديل المتمثل في العصرانية الديمقراطية (الأمة الديمقراطية – الاقتصاد المشاع – الصناعة الأيكولوجية) مقابل المكونات الثلاثة الأساسية للحداثة الرأسمالية المتجسدة في (الربح الأعظمي – الدولة القومية – الصناعوية).

 وهكذا انتصر المفكر أوجلان بخلقه لمنظومة فكرية متكاملة وبديلة محرراً بذلك الشعوب والمجتمعات البشرية من أثر الطبقية الدولتية وإجراء تغيرات جذرية في نهجها الفكري في أحلك الظروف وأخطر المراحل، لأن كل لحظة في إيمرالي تعني العبور لحياة جديدة.

to top