الحدث – القاهرة
تولد الكائنات الحية – ومن ضمنها البشر- بالفطرة ولديها حاجات أساسية (الأكل، الشرب، الجنس، والأمومة). والإنسان بتفرده عن الكائنات الأخرى بالعقل استطاع وعبر التاريخ إشباع هذه الحاجات بأشكال وطرق ووسائل مختلفة ومتطورة ومتنوعة؛ بحسب التنشئة والتعليم الذي تلقاه من بيئته، وما يتمتع به من خصائص يتفرد بها عن بقية أقرانه.
وحتى يتمكن الإنسان من الاستمرار في البقاء على قيد الحياة والحفاظ على نوعه؛ كان لابد له من اشباع تلك الحاجات الأساسية، وبشكل خاص المأكل والمشرب. وما لم يتمكن الإنسان من تأمين هذه الحاجات بما يضمن أمنه الوجودي لما كان بمقدوره الانتقال أو التفكير أبعد من ذلك، ولبقي محكوماً بحاجاته البدائية الأولية.
وحتى تتمكن أية قوة أو جهة من فرض سلطتها على منطقة ما أو احتلالها؛ كان لابد من التحكم بمحور تفكير سكانها، وهذا ما لجأت إليه السلطات عبر التاريخ من خلال جعل تفكير الإنسان محكوماً ضمن دائرة ضيقة ومحدودة لا تتعدى نطاق تأمين لقمة عيشه؛ التي في غالب الأحيان تفتقد إلى أدنى شروطها الصحية.
لقد ظل موضوع التحكم بمحور التفكير ولقمة العيش، ميزة من ميزات غالبية حكام الشرق الأوسط ذات الأنظمة المركزية الاستبدادية، التي تقوم بدور وظيفي للقوى والدول الرأسمالية، وحتى تتمكن تلك القوى من السيطرة ونهب ثروات ومقدرات المنطقة؛ كان لابد من تهيئة الأرضية عبر رجالاتها بتأدية هذا الدور الوظيفي المنوطة إليهم.
هذه الحكومات تمكنت من إسكات شعوبها وترويضهم عبر إطلاق شعارات قومجية؛ تارة بأن جميع مقدرات البلاد مسخرة لمحاربة اسرائيل والحفاظ على أمنها القومي، وتارة أخرى عبر نشر ايديولوجيات مصبوغة بطابع ديني كـ “الفقر هبة من الله والعبد الفقير هو الأقرب إلى الله”.
وبالطبع استطاعت السلطات المركزية الديكتاتورية الاستبدادية من أداء هذا الدور لعقود من الزمن؛ ولكن مهما طال أمد هذه السياسة ستتلاشى أمام أدنى انتفاضة تقوم بها الشعوب. وهذا ما شاهدناه بحرق البو عزيزي لنفسه في تونس وتبعته بلدان أخرى تمكنت من التخلص من حكامها المستبدين، وأخرى مازالت تناضل كما هو الحال في النموذج السوري.
النظام السوري وعبر عقود من الزمن مارس سياسة التجويع، أو ما يسمى بالأرض المحروقة على الشعب في بلد ليس فقيراً بموارده الاقتصادية، بل على العكس من ذلك، فهاهي الدول والقوى والجهات المتدخلة في الأزمة السورية- ومن دون استثناء- يتصارعون من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية، وإن كان لبعض هذه القوى الإقليمية – وبشكل خاص الدولة التركية- أهداف توسعية احتلالية، إلا أنّ الصراع على المصالح الاقتصادية، كان أحد أهم الأسباب في إطالة عمر الأزمة السورية.
لقد احتكر النظام السوري ثروات البلاد لخدمته ولخدمة اتباعه، حتى باتت تعرف بـ ” سوريا الأسد” و ” جيش الأسد” فاختُزل كل شيء عائد للدولة بشخص الأسد. هذه السياسية والمنهجية جعلت من الشعب يعيش حالة اغتراب وهو على أرضه، وما أن ركب الشعب السوري موجة الانتفاضات التي عمّت العديد من البلدان الشرق الأوسطية؛ رداً على حالة الكبت والحرمان مطالباً بحياة تضمن أمنه الشخصي عبر نشر العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية وتحسين الأوضاع المعيشية. ولأن الوضع في سوريا كان مختلفاً عن باقي الدول من حيث تكوينها الاجتماعي والإثني والعقائدي، إلا أنّ النظام القائم مازال يعمل في إطار ما تريده سياسات القوى والجهات الدولية، معتقداً أنّ إطالة هذه الأزمة وتفريغها من محتواها هو ماسيبقيه في سدة الحكم، وبالتالي تقاطعت مصالح القوى المتدخلة مع مصلحة النظام بالبقاء لأطول فترة ممكنة.
غالبية الشعب الذي عانى جراء سياسة التجويع والفقر والحرمان، لتأتي سنوات الحرب وتزيد الطين بلّة، حيث نشر البنك الدولي تقريره السنوي لعام 2020 لأعداد وأرقام الفقراء في العالم العربي، لتأتي سوريا في المرتبة الثالثة الأكثر فقراً من حيث العدد والذي بلغ مستوى الفقر فيها 80% بعد السودان 82% واليمن 85%. وعادة ما تستغل القوى التكفيرية والمتطرفة البيئات الفقيرة والمهمشة، لتدعم بشكل غير مباشر السياسة التي يتبعها النظام السوري لعقود من الزمن في “سوريا الأسد وجيش الأسد”، وهذا ما خلق ولاء لدى شريحة واسعة من الشعب الذي عانى التهميش والحرمان للأشخاص والفصائل ولقوى ودول وتكونت ولاءاتهم لجميع الا الولاء للوطن. طبعا هي نتيجة لسياسة حكومة لم تؤمن أدنى متطلبات العيش لمواطنيها عبر عقود من الزمن متزامنة مع نشر الجهل والتخلف.
ومن العوامل التي تساعد على خلق وتهيئة بيئة وحاضنة لاستقطاب ثقافة التطرف والتكفير هي عجز الإنسان عن تأمين متطلباته؛ ومواجهة المشاكل التي تتسبب في غالب الأحيان بتعطيل قواه الذهنية وتنشيط وتقوية قواه الروحانية واللجوء إلى الغيبيات والروحانيات لمواجهة تلك المشاكل والمصاعب للهروب من واقعه كآلية دفاعية؛ ولتحقيق طمأنينة لذاته وخاصة إذا كان الفرد يعاني في الأساس من تدني في المستوى المعرفي والوعي.
كل ذلك جعل الدول والقوى والجهات استغلال مواطن الضعف وحاجات الإنسان السوري وتسخيرها خدمة لأجنداتهم مثل داعش، وروسيا عبر توظيف مقاتلين في ” مجموعة فاغنر” في حروبها حتى خارج سوريا؛ وإيران عبر تشكيل فرق على ” هيئة الحشد الشعبي العراقي”؛ وتركيا كمرتزقة في حروبها سواء داخل سوريا أو خارجها، وتوريطهم في مستنقع مشاكل وأزمات زادت من حجم معاناتهم أكثر فأكثر.
نسبة الفقر والحرمان تزداد يوماً بعد يوم في سوريا عامة وفي المناطق الشمالية الغربية من سوريا بشكل خاص الخاضعة لسيطر الائتلاف والمحتلة من قبل دولة الاحتلال التركي. حيث لا تكتفي باستخدامهم كأدوات لتمرير أجنداتها في سوريا فحسب، بل تستغلهم كمرتزقة في حروبها الخارجية، وتعمل على التغيير الديمغرافي والتطهير العرقي في تلك المناطق عبر ممارسة إبادة ثقافية من خلال فرض سياسة التتريك والايديولوجية الإخوانية عليها؛ وتنشئة وتربية الأطفال على التكفير والتطرف وثقافة الكراهية، لما لهذا الفكر من خطورة على أمن وسلم واستقرار المنطقة لعقود من الزمن؛ ما لم يتم تنمية وتأهيل أبناء هذه المناطق التي تشربت من هذا الفكر لسنوات عدة. ولا ننسى عوائل وعناصر تنظيم داعش لما يحملون من التطرف والإرهاب.
الحاجة والحصار والصراع دفع بأكثرية الشعب السوري إلى النزوح والهجرة، حتى الفارين والنازحين والمهجرين لم يسلموا من الاستغلال والمتاجرة سواء في استخدامهم كورقة ضغط من قبل بعض الدول والقوى على أوروبا لتمرير أجنداتهم وبشكل خاص الدولة التركية، وحتى القارة العجوزة التي تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان لتأمين يد عاملة رخيصة لها.
والشعب السوري وبعد عقد من زمن الأزمة متجه نحو المزيد من الفقر وتراجع في المستوى المعيشي والصحي والتعليمي بسبب حالة الصراع المستمرة والحصار المفروض عليهم وعقوبات قانون القيصر ومفرزات جائحة كورونا دون وجود اية حلول تلوح في الأفق.
وحتى الشعب السوري في أحلك ظروفه لم يسلم من المصالح والأجندات الدولية والإقليمية؛ ومازال الصراع على فتح المعابر، وإدخال المساعدات والسيطرة عليها مستمراً، بينما المجتمع الدولي مازال يدور في حلقة مفرغة من بيروقراطية القوانين الدولية؛ التي وضعت منذ عقود ولظروف مختلفة عن الظروف والتطورات المتسارعة في ظل التطور التكنولوجي والعلم، مما جعل مصير الملايين من السوريين مرهوناً بفيتو روسي- صيني.
استمرار الوضع على ما هو عليه دون وجود حلول طويلة الأمد، ربما يضعنا أمام انتشار أوسع لحواضن التطرف والتكفير، ومزيد من الارتزاق، والاتجار بالبشر، وموجات جديد من الهجرة والنزوح، وموجات من الانتفاضة على النظام وداعميه. ولا نستثني من ذلك المناطق المحتلة من قبل تركيا مع ظهور حراك في مناطق متفرقة بين الفينة والأخرى، ومازال الشعب البائس يقاوم الظروف القاسية ولكن كما يُقال إنما “للصبر حدود”.
لذا؛ وحتى يتحقق أمن واستقرار وسلام دولي لابد – بالدرجة الأولى- من تحقيق الأمن الإنساني الذي يشمل أمنه الغذائي والاقتصادي من أكل وشرب وصحة وتعليم…إلخ؛ والعمل على بيئة آمنة يسودها الاستقرار والسلم. ما عدا ذلك مهما طال عمر النظام أو أي شكل من أشكال الحكم والسيطرة مالم يتحقق الأمن الإنساني بما يضمن حياة كريمة تليق به، لا يمكن أن يعم الاستقرار والسلام.
والجميع مسؤول بشكل أو بآخر عما آلت إليه الأزمة السورية من تداعيات خطيرة. وربما سنشهد كوارث أفظع على الصعيد الإنساني يهدد أمن واستقرار وسلم ليس المنطقة وحدها بل الإنسانية جمعاء. لذا على الجميع العمل معاً لإنهاء هذه الأزمة ووضع حلول طويلة المدى بما يلبي تطلعات الشعب الذي انتفض من أجلها. وإلا سنكون أمام المزيد من الخسائر في الأرواح وبؤر جديد لتوتر ومفرزات لا يحمد أحد عقباها.