الحدث – القاهرة
مما لا شك فيه أن حالة الفوضى التي تعيشها منطقتنا بكل اتجاهاتها أوصلت الشعوب لحالة من التخبط الحياتي من كافة النواحي، فلم تعد الشعوب تدرك ما الذي تعيشه وما الذي ينتظرها نتيجة هذه الفوضى. وربما إذا استمرت بهذا الشكل، فلا ريب أننا سنشهد الكثير من التخبط في السياسة والاقتصاد والثقافة. لأن الفوضى ضربت الحالة الفكرية للمجتمع في البداية لتجعله مشتتاً وتائهاً ولا يعرف ما الذي يدور حوله، لأن الفوضى بحدِ ذاتها تعتبر فلسفة تم اعدادها بدقة من قِبل أطراف تحاول السيطرة على الشعوب من خلالها، لتسوقهم بعد ذلك كيفما تشاء هي وأينما تشاء.
فلسفة الفوضى اعتمد مخططوها على الكثير من المعلومات والبيانات التي تم جمعها خلال سنوات من عملهم في مناطقنا تحت مسميات عديدة إن كانت اقتصادية أو سياسية أو دبلوماسية أو في مجال المنظمات الدولية والإقليمية المختلفة. هذه البيانات كانت بالنسبة لهم كنزاً لا يمكن مقاومة ثرائه من حيث كم المعلومات على كل ما يخصنا من كافة النواحي. بدءاً من الحالة الفكرية التي نعيشها وكذلك النفسية والتقاليد والأعراف والدين والقومية والسياسية والمالية، بالإضافة إلى الهوة الكبيرة ما بين أنظمة الحكم والشعوب. والكثير م المعلومات الأخرى التي استندوا إليها ليحللوا شخصيتنا بكل تفاصيلها المملة، وليبنوا وفقها مخططاتهم في السيطرة على عقولنا وإلهائنا بالأمور الثانوية بينما هم يَعِدّون عِدَّتهم لغزونا فكرياً وثقافياً وبالتالي السيطرة علينا. أي توصلوا لمشروع خلق (ثقافة القطيع)، وكيفية التعامل مع هذا القطيع من كافة النواحي. وما كورونا الذي نعيشه الآن إلا أحد الأسلحة التي يتم استخدامها ضد المجتمعات لتجييرها وتسييسها لتكون خاضعة ومنصاعة لكل أمرٍ يصدرونه. وبكل تأكيد أن رئيس الوزراء البريطاني لم يقل عن عبث عن فلسفة (مناعة القطيع) التي ستضرب المنطقة وعلى المجتمعات والشعوب أن تعتاد على ذلك.
أمام هذه الثقافة التي ارتضينا بها وكأنها من الحقائق والتي لا ينبغي الجدال فيها نتيجة الغزو الإعلامي الكبير الذي يرافق هذه الفوضى من كافة النواحي، حتى تحولنا لمنفذين لما يُقال لنا من دون أي اعتراض بشكل عام، وإن كانت ثمة مجموعات لم يتم السيطرة عليها، إلا أنه مع مرور الوقت سيتم اخضاع الكل بأي وسيلة كانت. هذه الفلسفة التي اعتمدت عليها ولا زالت تعتمد عليها حتى الآن الحداثة الرأسمالية وقوى الهيمنة العالمية للسيطرة على المجتمعات.
فالمتتبع لما يحدث في سوريا والعراق واليمن وليبيا وأرمينيا وغيرها من البلدان وحالة عدم الاستقرار والحروب والقتل والدمار المنتشر فيها، يستنتج أن هذه الفوضى تضرب المنطقة عامة وليس دولة دون سواها. أي أن الهدف هو المنطقة وليس منطقة معينة. وعليه أن أي حل لهذه الأزمة لن يكون إلا شاملاً المنطقة برمتها، وليس هناك حل لدولة دون غيرها. ومن ينتظر أن يعم الاستقرار في العراق مثلاً أو سوريا أو ليبيا وباقي المناطق لا زالت الحروب منتشرة فيها، فإنه واهم بكل معنى الكلمة والسياسة. فلن يكون هناك أي استقرار في أي مكان والمنطقة لا زالت على صفيح ساخن.
الانتخابات العراقية التي حدثت منذ شهور ثلاثة حتى الآن لم يتفق عليها الأخوة الفرقاء والأمور متجهة نحو التصعيد، وكذلك في ليبيا ورغم الاتفاق على موعد لإجراء الانتخابات الصورية، ها هي أيضا تم تأجيلها بقرار دولي لحتى حين، وسوريا التي تشهد الاجتماعات الماراثونية والتي وصلت إلى الاجتماع 17 من استانا وكذلك جنيف ومعها اجتماعات سوتشي، كل هذه الاجتماعات لم يزد من الوضع في سوريا إلا سوءاً وتهجيراً ودماراً وفقرٌ مدقع. والحال في اليمن وما ستؤول إليه الأوضاع في إيران وفلسطين، إلى الان لا أحد يعلم هذا الغيب والمجهول حتى تصل السكين للعظام وحينها نستفيق ربما من غفوتنا أو غفلتنا التي ننعم بها.
كل هذه الفوضى وتداعياتها السياسية والمجتمعية والثقافية والدمارية في المنطقة وما زلنا نكرر الماضي وكأن الحل فقط وفقط موجود هناك، ولا أحد يكلف نفسه أكثر من وسعها ليكتشف ويدرك أن الحل يكمن فينا نحن وما زرعناه على مدى العقود الماضية من استبداد وظلم وقهر وصهر للمجتمعات والشعوب والتي كانت السياسة الممنهجة لأنظمة الحكم في المنطقة! النبش في الماضي والتاريخ ليس عيباً إن أردنا الاتعاظ وأخذ الدروس والعِبر، ولكن الإصرار على تكرار الماضي يعتبر بحد ذاته جريمة لا تغتفر بحق الإنسانية والمجتمعات التي لا زالت تئن تحت وطأة الزعماء والحكام (الخالدين). حولونا إلى شعوب مقهورة وأكثر ما تحلم به هو البحث عن لقمة العيش لتسد به رمقها وجوعها الذي تعانيه. وما علينا سوى اتباع الأنظمة فيما تقوله وتفعله أو تقليد الغربي الذي هو المتطور والفاهم ونحن الجاهلين بعالم الدنيا بعدما كنَّا من مبدعي الحضارة والعلوم بشتى تفرعاتها. في هذه النقطة لا يمكننا إلا وأن نستذكر ابن خلدون حينما يصف حالة المجتمعات والشعوب في مقدمته المشهورة قائلاً: “المغلوب مولع بتقليد الغالب، في شعاره وعوائده وسائر أحواله، والسبب أن النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها. وأن الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها، وكلما طال تهميش إنسانها يصبح كالبهيمة، لا يهمه سوى اللقمة والغريزة. وعندما تنهار الأوطان يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والقوَّالون والمتصعلكون وضاربوا المندل وقارئوا الكف والطالع، والانتهازيون والمدَّاحون، فيختلط ما لا يختلط، ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل، ويسود الرعب يلوذ الناس بالطوائف، ويعلو صوت الباطل ويخفت صوت الحق، وتشح الأحلام ويموت الأمل، وتزداد غربة العاقل والعلماء، ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد إلصاقاً وإلى الأوطان ضرباً من ضروب الهذيان…”.
لخص ابن خلدون حالنا وما نعيشه قبل قرون عدة وكأنه تنبأ بما ستعيشه شعوب المنطقة بعد كل هذه المسافة الزمنية، ولكن عرف ذلك من طبقة الحكام الذين لم تتغير عقليتهم وذهنيتهم في سلوك وأسلوب وطريقة تعاطيهم مع الشعوب، وكأنها مجرد قطيع وهو الراع لهذه الرعية الجاهلة.
القطيع هو التوصيف الدقيق لما نعيشه بشكل كبير مع بعض الاستثناءات التي خرجت هنا او هناك والتي لم تغير من قواعد اللعبة المجتمعية من شيء. وأهم شيء في فلسفة القطيع هو أن تكون جميعها منقادة وراء الذي يسيَّرها وألا يخرج أحداً من أفراد القطيع من مكانه وإلا ستحل عليه لعنة الحاكم ويعلنه مهرطقاً وزنديقاً وكافراً وعميلاً وينبغي القضاء عليه، لأنه آلة وأداة بيد المؤامرة الكونية التي تُحاك على هذا الزعيم (الخالد). وهو ما قال عنه الفيلسوف شوبنهاور بكل دقة قائلاً: “أكثر ما يكرهه الحكام المستبدين، هو إنسان يفكر بشكل مختلف، إنهم لا يكرهون رأيه في الحقيقة، ولكن يكرهون جرأة هذا الفرد على امتلاك الشجاعة للتفكير بنفسه ليكون مختلفًا عن القطيع”. وهنا تنتهي الفلسفة ويتم القضاء عليها وليتحول الشعب والمجتمع والانسان إلى فاشل بكل ما للكملة من معنى.
التفلسف ربما يكون الطريق للخلاص مما نحن فيه على الأقل في هذه الحالة التي نعيشها وكلما تأخرنا على صياغة فلسفتنا الخاصة بنا، كلما كانت التضحية أكبر وسنكون فئران في حقول تجارب الآخرين لكل شيء، إن كان الدواء أو اللقاح أو السلاح. في الفلسفة وحدها تحيا المجتمعات وكذلك الانسان. وكل من يتخلف ويبتعد ويحاول منع الآخرين من التفلسف، علينا أن نكون متأكدين أن هذا الطرف يريد أن نكون من القطيع وألا نخرج من هذه الحالة التي نحن فيها. لأن الفلسفة تبدأ بالسؤال والذي هو أساس التطور المجتمعي والإنساني والذي لولاها لما وصلت الإنسانية إلى ما صلت إليه الآن في شتى مجالات الحياة.
إذ في الفلسفة الحياتية يجب ألا يدَّعي أحد بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، لأنه حينها ستتوقف الحياة ولن يكون لها أي معنى. إذ، سيتم فرض القوانين والقرارات وكأنها أبدية ولن تتغير وعلى الانسان ان يطبقها فقط. وهو ما كنا وزلنا نعيشه في راهننا. فالحقيقة ليست مطلقة ومتغيرة في كل زمان ومكان ومرتبطة بتطور وسائل الإنتاج وكذلك أدوات الإنتاج. وهنا ينبغي على الفيلسوف أو المتفلسف أن يبحث عن الحقيقة بشكل دائم ومستمر ولا أن يمتلكها. البحث الدائم هو الذي يفرض على الانسان أن يطرح الأسئلة دائماً ومن دون توقف، لأنه في حال توقفت عملية طرح الأسئلة حينها لن يكون ثمة فلسفة هناك، بقدر ما يكون الدوغمائية هي المسيطرة.
وللوصول إلى الحقيقة النسبية لا بدَّ دائماً من الشك في كل شيء وأهم شيء، لأن درب الشك هو وحده من يوصلنا إلى اليقين. لأنه من دون اليقين لن يكون هناك أية حقيقة بكل تأكيد. وها ما يمكننا ملاحظته في مسيرة سيدنا إبراهيم، حينما ساوره الشك في قدرة الله على احياء الموتى. قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) البقرة/260. فبكل تأكيد أن الشك الذي ساور إبراهيم جعله يطلب من الله أن (يرى) كيف يحيي الله الموتى، كان بسبب أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين ومنها إلى الحقيقة والتي كانت في طمأنينة القلب.
من درس سيدنا ابراهيم عليه السلام ينبغي ألا نقبل بالحقائق الجاهزة التي يتم تلقيننا إياها على أنها هي فقط الحقائق، بل علينا اتخاذ الشك سبيلاً وطريقاً لبناء اليقين للوصول إلى الحقيقة. ومن دون ذلك سيبقى الانسان وكذلك المجتمعات تعيش في ظلمات الجهل والظلم والخنوع.
أدوات كثيرة تتكئ عليها الفلسفة والتي لا يمكن لها ان تسير من دوه هذه الأدوات وإلا لتحولت مسيرتها إلى مسيرة مشلولة وغير متزنة وحتى أنها ستكون عمياء العين والبصيرة وتقلد الآخر، لأنها قبلت الاغتراب عن الذات والتيه في البحث عن طرق أخرى للحياة.
وهذا ما نعيشه الآن من حالة الفوضى التي تضرب كل جوانحنا ومن كافة الاتجاهات التي لم نعد نعلم أين نتجه. ولا يمكن مواجهة فلسفة الفوضى إلا بفلسفة أقوى منها وأوسع منها لتكون ملك لجميع المجتمعات والشعوب. فلسفة الفوضى هدفها تمزيق المجتمع وتشتيت الشعوب وتهجيرهم وتقسيم البلدان والدول واجبار الشعوب على السير ضمن السياق الموضوع لها كقطيع لا همَّ له سوى الأكل والتكاثر. حينها وبكل تأكيد ينبغي أن تكون الفلسفة المضادة تعتمد على آليات معاكسة لما تستخدمه فلسفة الفوضى.
الألية المهمة للخروج من هذا المأزق موجود في داخلنا نحن وتاريخنا الذي اغتربنا عنه وثقافاتنا الغنية التي كانت سبباً لأن نكون مهد الحضارة البشرية، حينما كنّا متمسكين بها.! إنها فلسفة العيش المشترك وأخوة الشعوب. هذه الفلسفة التي تفرغ فلسفة الفوضى القائمة على ضرب الشعوب بعضها ببعض وتقسيمها لطوائف وأثنيات متناحرة على الهويات القاتلة.
فلسفة العيش المشترك وأخوة الشعوب هي الأرضية الخصبة لبناء فلسفة الأمة الديمقراطية التي تحتضن كافة شعوب وثقافات المنطقة بمختلف اثنياتهم وطوائفهم ومذاهبهم وقومياتهم الأكثرية منها والأقلية. إنها حالة ذهنية ينبغي القيام بها في الدرجة الأولى ليكون بمقدورنا تحويلها لحالة من العيش مع بعضنا البعض من الناحية العملياتية.
فمفهوم الأمة الديمقراطية وكما يقول السيد أوجلان: “الأمة الديمقراطية باعتبارِها نموذجاً حَلاّلاً، يُنعِشُ ثانيةً دمقرطةَ العلاقاتِ الاجتماعيةِ التي مَزَّقَتها النزعةُ الدولتيةُ القوميةُ إرباً إرباً، ويُفعِمُ الهوياتِ المتباينةَ بروحِ الوفاقِ والسلامِ والسماحة. لذا جلب معه مكاسب عظمى. فنموذجُ الأمةِ الديمقراطيةِ يتسلحُ بوعيٍ مجتمعيٍّ سديدٍ للقيامِ أولاً بتطويعِ الإدراكاتِ المجتمعيةِ المشحونةِ بالعنف، ثم لتصييرِها إنسانية”. والأمة الديمقراطية هي عنوان مشترك لجميع الهويات المختلفة التي تعيش على أرض مشتركة.
فلسفة الأمة الديمقراطية التي اعتمدت البحث عن الحقيقة التاريخية لشعوب المنطقة مكنها من الوصول إلى وضع الحلول لكافة القضايا التي تعانيها مجتمعات المنطقة. البحث عن الحقيقة التاريخية والثقافية لشعوب المنطقة وكيف أنها متداخلة ولا يمكن الفصل بينهما رغم الاختلاف بينهما، إلا أنها بنفس الوقت هذه الاختلافات ما هي إلا غنىً وقوة لشعوب المنطقة في نفس الوقت. وهذا البحث ابتدأ من الشك في الفلسفات الكلاسيكية التي كانت قائمة والتي كانت السبب في تقسيم المنطقة إلى دول متناثرة ومتناحرة فيما بينها. ومن هذا الشك في تلك الفلسفات القاتلة توصل السيد أوجلان إلى وضع فلسفة جديدة اتخذت فلسفات المنطقة ومجتمعاتها وشعوبها وثقافاتها منطلقاً لها للوصول إلى حقيقة العيش المشترك والذي هو بداية المسيرة لبناء المجتمع والانسان الحر.