الأحد 24 نوفمبر 2024
القاهرة °C

محمود درويش ما بين الشاعرية والغنائية… متجاوزاً خريطة الشعر العربي

آراس بيراني

للشعر اتجاهات ومدارس وأنماط ومستويات عدة بحسب توجهها الإنساني العام أو القومي، ناهيك عن الشعر العاطفي الذي احتل مساحات كبيرة من الصوت الشعري، ذاك الشعر الذي اتخذ المرأة منصة أو عموداً مركزياً لحمل خيمة الشعر منذ عهود البداوة – التي لم تنتهِ شعرياً – فما زالت القصائد تتوالى وكأننا على كتف غدير ماء عذب تتزود القبيلة منه بمياه الشرب ونكاد نلمح فاتنة جميلة ترد الماء وشاعر أضناه العشق فيعلن ظمأه وعشقه لجمال عينيها، وسمة أخرى ارتكبها الشعر العربي هو الحنين للوطن، وصولاً لحالة مقارعة المحتل لوطنه بسلاح الكلمة والشعر، فوهب قوافيه للنضال وللوطن بشاعرية واضحة الغرض والتوجه ضمن رسالة شعرية مكررة منذ امرؤ القيس إلى نزار قباني، ويأتي شعر محمود درويش في البدايات غنائياً موزوناً، يتميز بروح الغنائية والتوهج، مما دعت الجماهير إلى الالتفاف حول شعره، ففي قضايا الشعر هناك ما يسمى الشعر المحلي الذي يعالج قضايا محلية ونادراً ما تتوسع حلقة المهتمين به نحو العالمية.

والشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش أعلن وفي أكثر من مناسبة بأنه لم يكن راضياً عن أغلب ما كتبه في البدايات كونها عالجت قضايا محلية رغم شهرتها وتفاعل الجمهور معها، فليس دوماً ما يألفه الجمهور يكون هو الشكل الفني الكامل للقصيدة،، فالشعر يتكون مع تطوير الشاعر لأدواته الفنية والمعرفية، وبقيت السمة التكرارية في نصوص درويش غالبة وفي أكثر من نص، كما أنه لم يستطع أن يتخلص من سمة الغنائية في نصوصه، التي خشي من أن تصبح قيداً، أمام تطور قصيدته، التي طالما حاول أن يجدد فيها ويحطم جدرانها المحلية إزاء قصائده الكونية متجاوزاً مرحلة فنية أسس بها لنفسه ولصوته الشعري مكانة مرموقة في تاريخ الشعر العربي، ليبدأ تاريخاً جديداً في كتابة الشعر مع  “جداريته” ومع “ليس للكردي سوى الريح” فأصبح شاعراً يمتلك أسلوباً وشاعرية ولغة جديدة تجاوزت عصر البداوة وعصر المعلقات الجدارية، فسنوات درويش التي قضاها بباريس وبقبرص وتأثره الواضح بلغة الروائي الكردي سليم بركات الشعرية والروائية هيمنت على روح قصائده وساهمت في تطوير أسلوبه الفني متخلصاً من غنائية الشعر إلى نمط آخر أطلق عليه الغنائية المركبة، كما في نص “على هذه الأرض” ونص “حاصر حصارك” ونص “فكر بغيرك” ونصوصه التي تغنى بها بالشعب الكردي كنص: “كردستان” وغيره.

إنها بلا أدنى شك نصوص إبداعية، ولا توجد ثمة أية مقاربات رمزية، فالنص خطابي غنائي كوني لا محلي، فقضية النص قضية إنسانية واسعة تتعدى حدود الدولتية، وتجتازها نحو عالمية الإنسانية، والشاعر رغم الروح الخطابية واستخدامه لفعل الأمر (فكر… وبشكل مكرر) إنه ليس أمر الحاكم المستبد وإنما أمر الشاعر الإنسان المرهف ولا أعتقد أن “درويش” يتخذ لنفسه سلطة ما ليأمر الناس، كما أنه لا يمثل دور الإله، أو الواعظ، فهو لا يرمي كلامه كموعظة في كنيسة، كما أنه ليس شيخ تكية يأمر مريديه باتباع أوامره.

بالمجمل وباختصار شديد فهو يدعو لمناصرة الجائع والظمآن واللاجئ المشرد والمحتاج، وإلى التضحية والإنسانية والخير وإلى الثورة والانتقام… مستخدما التكرارية الغنائية أسلوبا إبداعياً في خدمة فكرة نصوصه الهامة التي غيرت منهجية وطرق ورؤى الشعر، وأصبحت صبغة “درويشية” ونمطاً يعتمد البساطة والقوة والجزالة. نصوص فرضت كونيتها وعالمتيها في الإبداع الإنساني والفكري وباتت قصائد إنسانية جديرة بالقراءة والدراسة ولأجيال قادمة..

to top