الحدث – القاهرة
لطالما كان الدين منذ قرونٍ عِدَّة من أهم الأدوات والوسائل التي تم استثمارها واستخدامها من قِبل الوصوليين والانتهازيين الذين لا همَّ لهم سوى التربع على عرش السلطة بكل أدواتها وأجهزتها، لسهولة سيطرتهم على الشعوب والمجتمعات وتوجيههم كيفما يشاؤون وأينما يريدون. وقد برعت هذه الفئة من الناس في الابداع وخاصة من ناحية الأسلوب والخطابة لربما لأنها كانت من أفضل العوامل التي كانت تؤثر بشكل مباشر على الشعوب بمختلف مكوناتهم وقومياتهم وانتشارهم الجغرافي. الدين بتطوره من الطوطمية ووصلوه للمرحلة التوحيدية، مرَّ بالكثير من المراحل المختلفة والتي تطورت معها مختلف الأساليب والكلمات والمعاني، فقط ليتم سهولة السيطرة على جموع الناس عبرها.
التاريخ متخم لحد التقيؤ بأمثلة عن هذه الفئات والشخوص الذين استثمروا الدين بأفضل الأشكال وكانت لهم صولات وجولات في هذا الشأن وتربعوا على السلطة حتى انقلبت عليهم الأقدار وترهلت اساليبهم بعدما استحوذوا على السلطة، ظناً منهم أنهم بذلك اصبحوا من الخالدين. لكنه التاريخ الذي لطالما كان له مجرىً خاصاً به ليقول كلمته الفصل في نهاية الأمر. فسروا الدين وفق أهواءهم وأجنداتهم ووظفوه حيثما كانت أطماعهم وسلطتهم الجشعة. معظم الامبراطوريات عبر التاريخ قضت على من سبقتها باسم الدين وباسم “إعلاء كلمة الحق”، لكنها سرعان ما تتحول لسلطة استبدادية تحت مسمى “الحفاظ على الأمن والاستقرار”، وبهذا يحل الترف مكان الايمان، الرفاهية مكان التواضع، البذخ والاسراف مكان التقشف، المجون والليالي الملاح مكان غض النظر والنقل مكان العقل، وليتحول المجتمع إلى مجتمع مكبوت ومضغوط بألف حديث وتفسير وفتوى وفرمان سلطاني، ليُقتل كل من يفكر خارج صندوق الخليفة والسلطان على أنه زنديق ومهرطق وكافر وفي أحسن الأحول يشوى على نار هادئة ليكون عبرة لمن يحاول التفكير بالخروج من تحت ظِلال اللُحى المقدسة والمكرّمة من عند الله وكهنة المعابد.
كان ذلك ولم يختلف كثيراً إلا بنسب مختلفة في الكثير من مراحل التاريخ الذي تم كتابته من قبل هؤلاء الكهنة ومؤرخي الملوك والخلفاء والسلاطين. من الامبراطوريات الأكادية، البابلية، الآشورية، البارثية، الرومانية. ومن مرحلة فتوحات الحروب الصليبية مروراً بفتوحات الحروب الاسلاموية وصولاً لآخر إصدار لها والتي تمثلت بالخرافة (الخلافة) العثمانية. ومرحلة الاستعمار الحديث الشرقي منه (الاتحاد السوفيتي) والغربي أيضاً (البريطاني والفرنسي وصولاً لأمريكا). ربما تختلف المسميات والمصطلحات والنسبة، ليبقى جوهر السلطة هو هو لا يتغير، ليس له علاقة بالمجتمع والشعوب بقدر ما كانت الاطماع والسرقة وبالتالي الهيمنة هي الهدف النهائي لمعظم الامبراطوريات التي مرت على جغرافيتنا عبر تاريخها المأساوي والتراجيدي بنفس الوقت. لنصل لثنائية طرفين متنافسين ومتصارعين لا زال كل منهما يروج لنفسه على أنه الفرقة الناجية والتي تمتلك كامل الحقيقة وتمتلك مفاتيح “الفردوس المفقود” والأخرى هي الباطلة.
المشرقيين والمتأثرين بالاستشراق يظنون أنهم وحدهم يمتلكون مفاتيح تلك الجنة التي سيعيش فيها الكل بنعيم ورفاهية ولهم فيها ما “تشتهي أنفسهم”، وأن كل حروبهم هي لإعلاء “كلمة الله والحق”. لكن ما خُفي تحت هذه الراية من مآسي وويلات وقتل ونحر وسبي، ما يعجز الانسان عن كتابته. والطرف الآخر الغربي الذين يروجون على أنهم فقط يمتلكون مفاتيح “المجتمع الحر الليبرالي” وبمقدورهم نشر معايير حقوق الانسان والديمقراطية والمجتمع المدني، لكن ما خُفي تحت هذه الراية أيضاً لا يقل بشاعة عمّا تم اخفاءه تحت الراية الأخرى من نهب وحرق وتهجير وقتل واغتصاب وسرقات وفساد… الخ، والقائمة تطول لكِلا الطرفان.
لكل طرف عقيدته ومفكريه وفلاسفته الذين يروجون لما هم يعتقدونه صحيحاً وصدقاً. فمن ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ…﴾. الإسراء(81)، وحتى “نهاية التاريخ” لفوكوياما و “صراع الحضارات” لهينتغتون، ذهب الطرفان يحفر للآخر بمعول المكائد والمؤامرات باطناً، وتقبيل ذقون البعض وكيل المديح مع رقصة (العرضة) ظاهراً. فحينما ينتشر الدين الاسلاموي السياسي في العالم يكون “الحق” قد انتصر، وبالمقابل حينما تنتشر الديمقراطية الليبرالية ومعايير حقوق الانسان في العالم تكون “الحقيقة” قد انتصرت. وما بين هذين الانتصارين، تم القضاء على الشعوب والمجتمعات وإعادة هندستها من جديد وفق ما يخططون ويرسمون من حدود أشباه دول هشّة، تئن تحت قوانين أنظمتها المستبدة.
فلم تنتصر أمريكا والغرب عقب انهيار الاتحاد السوفيتي ولم تمتلك الحقيقة الكاملة، رغم ما تم زعمه من قبل مفسريهم فوكوياما وهينتعتون، بقدر ما تم استثمار الغرب للدين والمتدينين لمنافعهم الخاصة وأجنداتهم وحروبهم. وهذا ما نراه الآن على امتداد جغرافيتنا بشكل خاص والعالم بشكل عام. لأن الشر لا زال منتشراً بكل معانيه القذِرة والخير لا زال يبحث عن روّاده الذين سيرفعون رايته تجاه الفوضى المنتشرة في كل مكان. فما دام هناك مجتمعات وشعوب فلا يمكن للتاريخ أن ينتهي وكذلك لا يمكن للحضارة/ات أن تنتهي، بما أن الانسان والمجتمع في حالة تغير مستمر. وأن الانسان دائما ما هو يبحث عن الجديد الذي يشفي غليله الفضولي.
لربما ينتهي تاريخ المدنية وكل ما يتعلق من تطور كان نتيجة ظهور تلك وهذه المدنيات وكذلك التاريخ المكتوب، لكن بكل تأكيد لا يمكن أن ينتهي التاريخ كما زعم الغرب في “صراع الحضارات”. هذا الصراع سوف يستمر طالما استمر الانسان في بحثه عن الجديد في كل شيء. لأن تاريخ الحضارة بدأ مع اتفاق الانسان مع بعضه على وضع بعض القوانين النافذة والتي تنظم حيواتهم الجماعية، والتي تم تسميتها بـ “الاخلاق”. فلا يمكن التفكير بمجتمع من غير اخلاق، لأنه حينها يكون العيش في ظل هكذا مجتمع، كالعيش في غابة والقوي يقتل الضعيف، وهو ما نره ونعيشه. دائماً ما لجأت المجتمعات إلى الاخلاق للحفاظ على تواجدها وبقاءها وتماسكها، وعكس ذلك لا يعني إلا مجتمع هشّ لا لون له ولا وجود، وما هو إلا مجتمع استهلاكي وغير منتج، ينتظر قدر الله أن يبقيه على قيد الحياة. وتتقاذفه قوى الهيمنة يمنة ويسرى حسب أهواءها وما تسعى إليه.
مصلحتي ومصلحة وطني تقتضي أن أكون أو أتخذ هذا الموقف، فعندما تكون “المصلحة” هي مقياس سكوتي أو صراخي، فهذا لا يمكن وصفه إلا بأنه تقرب انتهازي وبراغماتي تتخذه بعض الأطراف للحفاظ على وجودها وسلطتها على حساب مجتمعاتها الهشة. فحينما تتغلب المصلحة على الأخلاق، حينها نكون نعيش “نظام التفاهة” كما عنون آلان دونو كتابه. حيث أن الأخلاق حسب أفلاطون هي شرط أساسي للوصول إلى “السعادة”، لأنه كان يرى “الأخلاق” بالابتعاد عن الشهوات حتى يحقق الفرد السعادة والعدالة والفضيلة. عن الشهوات بكل تأكيد لم يكن يقصد فقط الشهوات والغرائز الجنسية، بل كافة الشهوات من جشع وقتل ونحر ظلم واقصاء واستعلاء وغيرها من طبائع فاسد للإنسان والمجتمع وتوصل من يلهث وراءها لينقطع عن المجتمع والضمير الإنساني ويتحول كما رآها بن خلدون إلى “طبائع الاستبداد”.
ويقيم السيد عبد الله أوجلان الأخلاق على أنها “الذاكرة السياسية للمجتمع”. وحسب رأيه بأن أي مجتمع يفتقد أو تفتقر إلى الأخلاق، ما هي إلا مجتمعات تكون ذاكرتها السياسية ضعيفة، وتشير إلى مدى فقدانها لقوتها المؤسساتية والقواعدية التقليدية. من هنا نُدرك لماذا تحاول دائماً أية سلطة كانت في أي زمكان كان بوضع الكثير من القوانين وإصدار القرارات على حساب القواعد الأخلاقية المجتمعية، يكون هدفها تعرية هذا المجتمع من أي سلاح تستطيع من خلاله الحفاظ على تماسكه وقوته. فلا يمكن للمجتمع أن يحيا ذاته وأخلاقه إن هو أذعن بسهولة لسلطة واستغلال المستبدين.
فمن هنا وللخروج من حالة الفوضى والاستهتار بالمجتمعات هذه لا بدَّ لنا أن نعمل على ثورة ذهنية وأخلاقية كبيرة جداً أمام كم القوانين والقرارات السلطوية التي بتنا نختنق بها وكذلك المجتمع الذي وصل لحالة لا حول له ولا قوة. فلا يمكن فصل الديمقراطية والحرية والكرامة عن الأخلاق بتاتاً. وأن أي طرف يسعى لذر رماد الديمقراطية في عقولنا وأنه سوف يجلبها لنا على ظهر دباباته وأسلحته والدُمى التي ينصبها سلطاناً علينا، فأنه يعمل على تغريبنا عن حقيقتنا المجتمعية ليجعلنا عبيد حداثيين في عالمه الافتراضي، المليء بالرياء والفتن والفساد الأخلاقي والمعرفي والفكري.
طريق الوصول للفردوس المفقود والعيش بكرامة وحرية لا يمر سوى عن طريق الاخلاق المجتمعية والعيش المشترك بين كافة القوميات والأعراق والمذاهب والطوائف، بعيداً عن انتصار هذا الطرف أو ذاك على الآخر. قرون عدة والشعوب ما هي إلا عبارة عن وقود وضحايا لحروب هم بغنى عنها وليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل، سوى اللطم على ما مضى من عمر بعد معرفة حقيقة من يدَّعون الحقيقة. لكنهم في نهاية المآل ما هم سوى ملوك وزعماء عُراة يسعون لتغطية عوراتهم بأجسامنا. أخوة الشعوب فيما بينها هي الأس أو الشيفرة التي علينا أن نبحث وننبش عنها في داخلنا وليس في مكان آخر. وعندما نخرج من مستنقع الاغتراب الذاتي الذي نعيشه ونرى أننا موجودين فقط بوجود الآخر، حينها نكون قد خطونا الخطوة الأولى في مسيرة بناء المجتمع والانسان الحر والأمة الديمقراطية وبداية كتابة تاريخ الأخلاق.