الحدث – القاهرة
ما يجري من تطورات في العالم ومنطقة الشرق الأوسط يشير بوضح إن تم التدقيق فيها وقراءتها بتمعن أننا أمام إعادة ترتيب للمشهد الإقليمي أو بداية لفصل من الهيمنة العالمية وبأدوات ووسائل أقل تكلفة وأكثر تأثيراً وأوسع بعداً بعد تخبط الأدواة الإقليمية كالدول القومية في سياساتها ومقاومتها للتغيرات الواجبة التي يجب أن تحصل فيها تزامناً مع جيل جديد من أدوات التأثير وعصر الأنترنت ومحاولة تضليل العالم في أن عصر الأيدولوجيات ولت وأن القوة والحياة تكمن فقط في الاقتصاد وفي جوانب معينة وليس في الفكر والمعلومة والإرادة الحرة وأن الحرية الشخصية أو الفردية هي الأساس وليست الحرية المجتمعية وهذا بحد ذاته إيدولوجية ليبرالية دولتية.
مما لاشك فيه أن الأفكار و الذهنيات ومعها سلوكياتها المرافقة والمعبرة عنها، تعيش وكأدوات للحكم والسيطرة والدولتية مراحل تجديد مختلفة وعبر كل الأزمنة حتى تضخ دماء جديدة وتعطي استمرارية لنظم الهيمنة والنهب التي لم تذهب عن كاهل المجتمعات والشعوب منذ أن بدأت مسيرة المدنية والحضارة المركزية في تاريخ البشرية وهي على خلاف وتضاد مع الحياة الثقافية والتقاليد الديمقراطية المجتمعية بعد أن تلاقي الثقافتين الأرية والسامية ممثلتين بثقافة تل حلف وثقافة آل عبيد في ميزوبوتاميا وتبلورهم في سياق الحضارة المركزية ودول المدن.
أما نظام الدولة كأداة للهيمنة أو في حقيقتها شبكة النهب والقمع مضافاً لها الطبقية والسلطوية كانت في حالة جدلية مع المجتمع كبنية وماهية وتجسيداً للإنسان وثقافة الوجود الكريمة والحرة. و في كل تغير كان تسعى إليها المجتمعات والشعوب أو في حالة الأزمات الحادة كانت للدولة أو المركزية ثورتها المضادة للثورة الحقيقية المجتمعية وغالباً كانت الدولة والمركزية تربح الصراع بعد فترة من نجاح الثورة الحقيقة الديمقراطية، ولعل رصد ومتابعة وبحث أغلب الثورات حول العالم تؤكد ذلك حتى حركات التغيرات العميقة التي حصلت مع الرسل في المنطقة بأبعادها الاجتماعية ، ولعل أهم أسبابها يرجع إلى الحداثة أو طراز الحياة والسلوك والثقافة المتبعة والتي لم تختلف في كثير من الأوقات والأماكن بين المتصارعين أو المختلفين على النفوذ والسلطة والمال. وهذا ما جعل دوامة الإسقاط و التهديم والخراب وبناء نفس الشيء يتكرر مرات عديدة ووقودها مجتمعاتنا وشعوبنا وفي كل مرة في أطر وأفق وأبنية فكرية ومادية لاتختلف عن سابقاتها سوى بالشكل والمظهر وليس بالجوهر والمضمون وهم لهم نفس حداثة الحياة.
منذ القرن الثاني عشر وما بعده بدأ الانحدار و فقدت منطقة الشرق الأوسط بريقها وحضورها في المشهد الإنساني والأخلاقي وكذلك ريادتها للإنجاز والإنتاج البشري. ودخلت شعوب منطقتنا في صراعات وحروب بينية لا تجلب سوى الضعف والضياع وذلك نتيجة لسكون الفكر والإبداع والتجديد وتفشي الفراغ الفلسفي والعلمي وزيادة المركزية في رؤية كيفية العيش وإدارتها ومرجعية سلوكيات الحياة وإفشال حركات التجديد والتنوير حينها ، إلى أن وصلنا إلى الحرب العالمية الأولى وبعدها للثاني وأصبحت منطقتنا وبالدولة والأفكار والسلطات والحركات والسياسات التي تم فرضها وضخها وخلقها أدوات ومستلزمات مؤقتة تلزم لحاجة نظام الهيمنة العالمي مع إنكلترا أولاً ثم مع أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية.
وما كانت حركات التحررالوطنية والأحزاب اليسارية واليمينة وكذلك الإسلام السياسي أو السلطوي والتيارات القومية وغيرها سوى منتوجات تخضع لتأثيرات الفكر الإستشراقي الذي همه الأول خلق الأرضية والظروف لتحكم الهيمنة العالمية بمنطقتنا وبثرواتنا وشعوبنا، وما يدل على بعض ما ذكر هو حالة الفاشية والأحادية والإقصائية وإنكار الأخر وحالة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي قامت بها معظم هذه التيارات والحركات التي أدعت أنها تمثل شعوب المنطقة ومصالحها وقامت بالثورات وبناء الدول القومية وهي بعيدة كل البعد عن ثقافة المنطقة وقيمها ومصالح شعوبها المتكاملة و المتعايشة آلاف السنين وماهي سوى حلقة من الفراغ والتبعية والاستعمار غير المباشر . بل أن حالات المقدسات المصطنعة و حالة الإعلام المختلفة لدويلات المنطقة والمجسدة لعرق أو قومية أو اثنية واحدة فقط دون الأخرى وهم في نفس الدولة الواحدة والأناشيد الفاشية والحدود الصارمة المصطنعة لا تختلف بشيء عن عبادة الطوطم أو عبادة الوثنية والأصنام رغم احترامنا وتقديرنا لكل ما ذكر ، لكن كيف نفسر سلوكيات القومويين والإسلامويين والدويلات القومية في منطقتنا في رفضهم للحياة الحرة والتعايش المشتركة والأخوة بين الشعوب بإسم الأمن القومي للدولة الفلانية كما تفعله تركيا وغيرها أو كيف نفسر هذا القدر من الحروب والصراعات والنهب من قبلهم سوى أنهم أدوات رخيصة مسلطة على شعوبنا ومجتمعاتنا ويتم إستبدالها متى انتهت أدوارها في اللعبة الإقليمية والدولية وفي اخضاع الشعوب والمنطقة وسد الطريق أمام أية ظهور أي سياق مجتمعي وديمقراطي حر يستند إلى الأصالة والعلمية لتجاوز أزمة المنطقة وحالتها الأداتية والتابعية والمسيرة من غير أهلها وثقافتها.
تم تقسيم العرب لدويلات عديدة وتجزيء الكرد بين أربعة دول بدون حقوق وخلق تركيا النيتوية(أداة للنيتو ببعديها العلماني والإسلاموي) وإيران الشاهنشاهية والإسلاموية الشيعية القومية وخلق الكيان الإسرائيلي ، هذا وكنظام إقليمي مناسب للهيمنة العالمية على المنطقة واستقرار مصالحها العليا فيها. ولاشك أن أي تغير في الترتيب السابق سيتمخض عنه بالضرورة تغير في بنية النظام الإقليمي و في ترتيب أولويات القوى المركزية في نظام الهيمنة العالمي بالنسبة للمنطقة وشعوبنا والدول الموجودة، أي أن الترتيبات السابقة في الإقليم شأن دولي وعالمي وليس فقط محلي و إقليمي. وأي محاولة أو ظهور سياق سياسي أو مجتمعي خارج المرسوم يتم إعتباره غير مقبول ويتم تكليف الأدوات الإقليمية بإبادته وسحقه أو ترويضه وجعله في السياق المرسوم العام وذلك حسب مقاومة وفاعلية السياق المجتمعي السياسي. وهذا ما تم تجريبه على أغلب الحركات والتحركات الشعبية في المنطقة أو حتى بعض دول المنطقة التي حاولت التصرف وفق ذاتية شعبها وثقافتهم في بعض الأحيان القليلة وبذلك تم إفراغ الكثير من التحركات الشعبية من مطالبها وجوهرها وتقاليدها الديمقراطية.
لكن ما نلاحظه في السنوات العشرة الأخيرة خاصة أو بالأخص منذ التسعينات وتبلور نظام القطب الواحد في نظام الهيمنة العالمي أن هناك تحضيرات لإجراء ترتيبات جديدة وإعادة هيكلة النظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط لما يناسب الأولويات المتغيرة والجديدة للنظام العالمي وأهدافه وذلك حسب الحالة الاقتصادية والفكرية والسياسية وتطور التقنيات وعصر الأنترنت والوسائل الجديدة والأقل تكلفة والأكثر تأثير في تحقيق أهداف الهيمنة العالمية في المنطقة والعالم.
ويمكننا القول أن الدفع بتيارات الإسلام السياسي إلى التصادم مع الشعوب وحالة عدم السماح لظهور بديل مجتمعي وحر وإنهاء وإفشال التحركات الشعبية والثقافية وتقوية بعض الأدوات والسماح بمساحة من الإرهاب الداعشي والقاعدي وتحركه في مطارات العالم و بمساعدة من بعض الدول المنطقة ودعمهم عبرهم كتركيا وخلق تكتلات إقليمية جديدة وإنهاء عزلة إسرائيل عبر “أبراهام” والتعامل مع بعض الفاعلين المؤثرين من غير الدول في الشرق الأوسط والبحث المتزايد حول الطاقة والغاز وتأمين منابعهم وخطوطهم وإيصالهم إلى الأماكن المطلوبة وبالتالي كسر بعض الأعراف السياسية السابقة في تعاملات الهيمنة العالمية مع المنطقة، يوحي بالكثير القادم وإن عبر فترات ليست بقصيرة، ومن الطبيعي أن أي تغير لن يكون ذات مغزى وتاثير مع ترك تركيا وإيران بوضعهم الحالي فالضرورة تقتضي تغيرات جوهرية إن عبر الحرب أو عبر السلم فغير مقبول أن تكون تركيا في غير صف الناتو وكما أن ترك تركيا تدعم في الإرهاب والدواعش والقاعدة والإخوان ماهي إلا مرحلة محددة حتى ترتد عليها وتدفع ثمن دعمها وعندها يكون تحقق المطلوب من غير القيام بأي إنقلاب كما كانت تفعله الناتو لإرجاع تركيا لجادة الصواب منذ عام 1925 وتحكم البريطانين واليهود بها وبتكوينها إلى عام 1952 وضمها للنيتو. وكما أن الاتفاق النووي والكلام عن قرب توقيعه دون أخذ مخاوف الخليج وإسرائيل حسب المشاع المراد ماهي إلا للتفرد بروسيا وبوتين وخنقه في أزمة أوكرانيا ومستنقعها ، بعد الانسحاب الغامض من أفغانستان وترك المجال لداعش خرسان بالنمو وزيادة قوتها لضعفين في غضون ستة أشهر مع محاولة لضم جزء من باكستان لمسار داعش خرسان لخلق بؤرة توتر قرب الصين وإنهاء مشروع طريق الحرير عبر خلق جبهات متصارعة في باكستان وتهديد الهند لعدم الاقتراب من روسيا والصين .
لكن هذا كله لا ينهي إن النظام العالمي يعيش حالة من الأزمة ومن الممكن أن يشهد مزيد من التدهور أو تقاسم النفوذ والهيمنة بين قواها الرئيسية أو إيصال الحرب العالمية إلى مستوى استعمال الاسلحة النووية ، وهو يبحث عن الحل في الشرق الأوسط وفي الشرق الأدنى وفي أوربا، فهذه المناطق وكما كانت ربوع ومسارح للحروب العالمية السابقة فهي كذلك مع الحرب العالمية الثالثة التي تكتب أحد فصولها الآن في أوكرانيا بعد فصلولها في الشرق الأوسط وخاصة مع حالة الربيع أو الخريف العربي والتمدد العثماني الأردوغاني في الدول العربية و مع فصلها في تركيا وحالة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي واستعمال الكيميائي من قبل الدولة التركية بحق الكرد وقوات حريتهم داخل تركيا وفي محيطها.
وكما يقال فإن التغيير سنة الكون والطبيعية ولا يبقى حال على حاله وإن بقي فإن الزمن يتغير وهو كفيل بذلك وهذا بحد ذاته تغير فالوجود والزمن لابد أن يكون معه البناء والتغير، ولكن كيف ومتى ومن يقوم به وبأية أفكار وأهداف، يتوقف هذا على من ينظمون أنفسهم ويرتبون أهدافهم ويقومون بواجباتهم المجتمعية وستكتب النجاح لهم، ولا يهم كم عددك أو مساحتك أو لونك أو قوميتك ولكن المهم كم هي مقدار فعاليتك وتأثيرك ومشروعك الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي بعد قراءتك الصحيحة والكاملة لصورة المنطقة والعالم وبالتالي حضورك في المشهد المحلي والإقليمي والعالمي والذي لن يكون إلا بعد وحدة العمل والفكر والروح فهي شرط لكل نجاح وانتصار وتجاوز الأزمات وكما تلاقت الثقافة الأرية والسامية في بداية المدنية والحضارة تستطيع المنطقة او الشرق الأوسط وبشعوبها الأصيلة كالعربية والكردية وغيرهم تقديم مشروع لتجاوز الأزمة وترتيب المشهد الإقليمي وبالتالي إجبار قوى الهيمنة العالمية على أخذهم على محمل الجد في ترتيباتها في المنطقة، عبر تقديم بديل سياق مجتمعي وديمقراطي حر كالأمة الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطية لشعوب الشرق الأوسط أو أية صيغ للعمل المشترك لمواجهة التحديات وتجاوز الأزمات ومشاريع التدخل الإقليمي والخارجي، مستندة لأخوة الشعوب وتحرر المرأة وريادتها مع الشباب وإنقاذهم البيئة والطبيعية من براثن نظام الربح والهيمنة ليكونوا نواة لتحقيق الديمقراطية في المنطقة وتحقيق التحول الديمقراطي في دول المنطقة.