الحدث – القاهرة
لدى محاولة البحث في أزمات المنطقة ومحدداتها ومضامينها وبنيتها الإشكالية وأبعادها و خاصة من الناحية الاجتماعية الاساسية التي ترسم ملامح معظم الأبعاد والمحددات الأخرى للأزمة نجد قضية الإدارة وماهيتها وبنيتها والذهنية التي تجسدها ممارسة وسلوكاً ، هي التي لها التأثير الكبير في إخراج الأزمات وتصدريها بالأشكال والصيغ المختلفة للوسط للاجتماعي.
ورغم قيام الكثير من ثورات الشعوب والمجتمعات في المنطقة والعالم وحركات التحرر الوطنية ،إلا أن الثورة المضادة هي من كانت التي تسود بعد فترة قصيرة من ظن الثوار أنهم انتصروا ، وذلك لأن الثورات والثوار لم ينقطعوا عن نفس نظام الإدارة السابق من الحكم السلطوي المركزي ، فهم إما تسلموا السلطة فتمركزوا وفسدوا وأضاعوا البوصلة المجتمعية أو أنهم لغوا الإدارة والحكم الطبيعي الجماعي كلياً فتفردوا صوب الفوضوية وعدم وجود اية إدارة وفتحوا الباب والمجتمع لكل التدخلات. وفي الحالتين الهزيمة ظلت هي النتيجة ولو بعد حين.
تنبع أحد البنود الأساسية في القضية الاجتماعية من اعتداء السلطة المركزية والدولتية على ظاهرة الإدارة واغتصابها باسم الثورية والوطنية والقومية. ذلك أنه، ومن دون الاعتداء على الإدارة وتحريفها وتشويهها؛ لا يمكن للظواهر الأخرى من القمع والنهب والتبعية للخارج أن تتحقق، ولو تحققت، فستكون مؤقتة؛ نظرا لعدم التمكن من مأسسة القمع والاستغلال والنهب. أي أنه تتأسس آليات القمع والاستغلال والنهب على المجتمع، بالتناسب طردا مع مدى تحقق الانقضاض وإضعاف الإدارة المجتمعية الذاتية والتعدي عليها ومحاولة تصفيتها. وهكذا تصبح جميع الظواهر الاجتماعية في مستنقع القضايا الإشكالية المتأزمة بدون اية حلول.
إن نظام المجتمع الطبيعي الذي تم إضعافه قد تفتت بالحكم الهرمي المركزي ومن يومها يواجه ذلك النظام الطبيعي القضايا الاجتماعية الداخلية في بنيته اساساً وكذلك القضايا القادمة من التفاعل مع المحيط والخارج وهكذا تفاقمت وازدادت ثقل القضايا وترسخها طردياً في ثنايا الثقافة المادية والمعنوية المجسدة والمعبرة عن المجتمع وتدفق الحياة فيه.
ويمكننا القول أن النزاعات والصراعات بين الصيغ الاجتماعية المختلفة من الكلانات والقبائل والعشائر والتجمعات المختلفة وصولاً لدول المدن والمدنيات والإمبراطوريات والممالك والسلطنات والسلالات تشير إلى البنية الإشكالية تلك. و الأفكار الميثولوجية والمصطلحات الإلهية المختلفة البارزة وكذلك الأديان السماوية والعلمانوية الوضعية في العالم الذهني والتفكري والمؤسساتي في مضمونها هو تعبير عن القضايا الاجتماعية المتزايدة تلك وتداعياتها. و بمقدورنا رصد كل هذه الظواهر في المجتمع السومري وما تلاه . فالحروب الناشبة بين الآلهة وبأسمائهم وأماكنهم المختلفة ، ليست في حقيقة الأمر سوى إشارة إلى علاقات الإنتاج و تنافر وصدام المصالح فيما بين السلالات الهرمية المتصاعدة وحكام دولة المدينة والمركزية التي ترسخت مع الصراعات والنتائج والتداعيات المرافقة لها. وكانت نماذج أولية من صراعات السلطة والنفوذ، والاحتكارات الاستغلالية، ورغبة النهب والسرقة والقضايا الاجتماعية للصراعات الجذرية الكائنة في أرضية واساس التناقضات والمشادات الطبقية بين المدينة والريف وكذلك بين الطبقات التي بدأت تتبلور بشكل فارق و تبلور علاقات الإنتاج والربح والدولتية والمركزية. وهذه كانت منذ 4000 ق.م في ميزوبوتاميا السفلى، وثم جميع مجتمعات المدنيات والأنظمة المركزية السائدة حتى اليوم .
ومع هذه الصراعات واشتدادها ظهرت الإدارة المركزية السلطوية أي الحكم الدولتي منتصراً وساد لأسباب عديدة ، إلا أن المجتمع وطبيعته الإنسانية لم يتخل أبداً عن رغبته في إدارة ذاته، بل كرر دوماً من مطالبه وحقه في الإدارة المجتمعية الذاتية الديمقراطية كحاجة أولية للطبيعية الإجتماعية في وجه الحكم السلطوي المركزي الدولتي المصطنع. وظلت المجتمعات وببناها وهياكلها المختلفة من العشائر والقبائل والاتحادات والخصوصيات المختلفة والتجمعات العديدة تعيش وهي معنية ومعبأة بالوعي والإدراك العميق المنتبه إلى أن التخلي عن الإدارة المجتمعية الذاتية الديمقراطية يعني التشرد و الأسر وفقدان الهوية وقبول الخضوع والذل والمهانة وفقدان الحماية. ويمكننا رصد الكثير من حركات المقاومة للمجتمعات في سبيل صون هويتهم وعدم التخلي عن إردتهم الحرة و إدارتهم الذاتية وذهنيتهم التشاركية. ونستطيع ملاحظة هذه الظاهرة بنحو واسع النطاق حتى يومنا الحالي. و كما أن المقاومات والهجمات التي واجهتها المدنية السومرية على يد الأراميت الذين هم قبائل صحراوية (القبائل العربية البدئية) غرباً، وقبائل الكوتيين و الهوريين (أسلاف الكرد ) شمالاً وشرقاً، والتي يتم ذكرها في اللوحات السومرية على شكل ملاحم هي تعابير عن تلك الحالة من الإصرار على الحرية والإدارة المجتمعية وعدم القبول بالخضوع التام للمركزية الدولتية السائدة مع السومريين وما تلاهم.
قضية الإدارة الذاتية للخصوصيات وللبنى المجتمعية المختلفة وهياكلها وللاتحادات والتجمعات المجتمعية تتجسد وتتبلور في هيئة قضية الديمقراطية خلال مراحل التحول إلى قوم أو ملة أو شعب أو أمة مع الإسلام وما تلاها منذ القرون الوسطى. لكن من المهم والواجب تعريف الديمقراطية بجانبين أو بصفتين فيها:
احتواؤها العكس و التضاد لمأسسة وتدويل السلطة القسرية المفروضة على الشعب وتمركزها الشديد.
إعطائها المساحة وإضفاؤها المزيد من التوافق والتشاركية على الإدارة الذاتية المتبقية من المجتمع التقليدي، ومأسستها لثقافة النقاش والاجتماعات والحوار، معززةً إياها بتأسيس نموذج مصغر من البرلمان والشورى ومجالس النقاش والحوار. حيث تحقق الإدارة المجتمعية الذاتية الديمقراطية مشاركة جميع الوحدات الاجتماعية والاتحادات المعنية والخصوصيات المختلفة بوصفها ذاتية ديمقراطية إدارية، وتؤمن تمأسسها وترسخها.
ومن المفيد ذكر بعض نماذج مهمة في المسار التاريخي للديمقراطية :
ديمقراطية أثينا: لا تعتبر ديمقراطية أثينا ديمقراطيةً كاملة، كونها لم تتخط العبودية. وفي الوقت نفسه لا تعد دولةً أيضاً، كونها لم تقبل التدول الذي في نموذج أسبرطة(Sparta)، وهذا المثال اللافت للإنتباه على صعيد الانتقال من الديمقراطية التامة نحو الدولة، يمدنا بالعديد من الدروس التي تسري على يومنا أيضاً بشأن الديمقراطية الحقة. فالديمقراطية المباشرة، وانتخاب الإدارة بالانتخابات السنوية، وعدم امتلاك المنتخبين أية امتيازات تفوق على عامة الناس، وظاهرة الإدارة المسارة بالديمقراطية، وثقافة الاجتماعات التي تؤمن مشاركة المواطنين في النقاشات الحياتية و السياسية، وبالتالي تحقق تعبئتهم بالتدريب والوعي؛ كل ذلك قيم متبقية من إرث ديمقراطية أثينا إلى الحاضر.
ديمقراطية سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام: وتجسد ذلك في دستور المدينة أو صحیفة المدینة في المدينة المنورة( يثرب) في عام 623م ,هو أول دستور مدني في تاريخ الحضارة الإسلامية ويحتوي على 52 بنداً منها 27 بند مرتبط بالعلاقة بين أصحاب الأديان والقبائل، ولاسيما اليهود و حتى عبدة الأوثان و يبقى هذا الدستور الديمقراطي معلماً من معالم الحضارة الإسلامية والثورة المحمدية ومجدها السياسي والإنساني و الديمقراطي. و تمت كتابته فور هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ويهدف دستور المدينة إلى تحسين العلاقات وكيفية التفاعل بين مختلف الطوائف والجماعات والقبائل والعشائر في المدينة، وعلى رأسها المهاجرين والأنصار و اليهود وغيرهم، حتى يتمكن بمقتضاه المسلمون واليهود وجميع التكوينات المجتمعية من العيش المشترك و من التصدي لأي عدوان خارجي على المدينة. وبإبرام هذا الدستور وبإقرار جميع التكوينات الاجتماعية صارت المدينة المنورة حالة ودولة وفاقية تشاركية ديمقراطية ولجميع التكوينات وفقها حق الحماية الذاتية والعيش بالخصوصية المجتمعية الديمقراطية وإدارة أمورها الخاصة وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، والمساواة والعدل.
ديمقراطية زرادشت: وهي نموذج للمساواة بين المرأة والرجل وكذلك مثال على احترام الطبيعية والتشارك معها بوعي وتفاعل مثمر لبناء حياة طبيعية ديمقراطية ولعل هنا تم الوقوف على جوهر ومنبع كل القضايا والأزمات والسلطويات والسلوك الدولتي حيث أن كل ظواهر الاستبداد والقمع والنهب وتمأسسهم كانت أولاً على المرأة وإهدار وسلب حقوقها في الحياة وإدارتها وكذلك يشكل الاعتداء علي
الطبيعية والنظر لها فقط من منطق الربح والفائدة المادية هي أحد ملامح أي نظام مركزي سلطوي دولتي. وبهذا جسدت ورسخت الزرادشية مبدأ الأخلاق والمساواة في جوهر الديمقراطية بالإضافة إلى مبدأ التفكير العقلاني الثلاثي عبر ثلاثية الفكر والقول والسلوك الحسن .
الديمقراطية الليبرالية التمثيلية: وهي التي ليس لها علاقة بالديمقراطية الحقة المجتمعية وهي تعبير عن اسلوب مناورة للسيطرة على إرادة الناس والمجتمعات بشكل مضلل ومنحرف تحت إسم الصناديق والانتخابات الوهمية و هي تعبير عن مصالح فئة أو شريحة وبعض مئات من الأشخاص الذين يكذبون وينافقون في مسيرة هذه الديمقراطية التمثيلية الشكلية ، ولكن للأسف ومع تعدد اساليب الهيمنة والسيطرة والنهب، ظن الكثير من المجتمعات والدول وحتى النخب والأحزاب والتيارات السياسية أن هذه التمثيليات الدولتية بأسم الديمقراطية والبرلمانات ودولة المواطنة وحقوق الإنسان هي صحيحة دائماً و لكن في الغالب ماهي سوى ادوات لإضعاف المجتمعات وسلبها حقها في إدارتها الذاتية الديمقراطية وحقها في التنظيم والحماية الذاتية والوعي الحقيقي المصاحب لمصالحها و المجسد لإرادتها الحرة وذهنيتها الديمقراطية.
الديمقراطية الشيوعية أو الاشتراكية السوفيتية: التي فشلت في النهاية ورغم الكثير من قيمها المجتمعية والإنسانية ، حيث اعتقدت أنها بحل قضية السلطة والدولة عن طريق إنشاء سلطة ودولة مضادتين تستطيع بناء الاشتراكية والشيوعية، حيث لم تحسب حساب أن الدولة والسلطة رأس مال متراكم، وأنهما ستؤولان إلى رأس المال والرأسمالية كلما ازدادتا فعاليةً؛ وعانت بذلك عمىً نظرياً جاداً في هذا الموضوع وانحرافا وتضليلاً كبيراً. وبينما ظنت الاشتراكية المشيدة(النظام الذي ساد في الاتحاد السوفيتي وما حولها ومن دار في فلكهم) أنها ستصل الشيوعية بتضخيم الدولتية القومية المركزية بما يزيد على أمثلتها الليبرالية الكلاسيكية أضعافاً مضاعفة، لكنها باتت وجهاً لوجه أمام أكثر الكيانات الرأسماليةً وحشيةً وترويعاً. من هنا، فتجارب الاشتراكية المشيدة غدت من أهم النتائج التي تدل على استحالة تحقيق الاشتراكية من دون ديمقراطية ومن دون إدارات مجتمعية ذاتية ديمقراطية.
وعليه، علينا إدراك مميزات ظاهرة الإدارة المجتمعية الذاتية الديمقراطية، ومدى انتشارها. حيث تعرف نفسها كشكل إداري مجتمعي لا يتحول إلى سلطة أو مركزية دولتية، وبالتالي لا يمهد السبيل أمام القضايا الاجتماعية، ولا يفتح المجال أمام ولادة القمع والاستغلال والنهب. ومن هنا، فالشفافية و الوضوح والصفاء دوماً هي من المزايا الأساسية للديمقراطية أو الإدارة المجتمعية الذاتية الديمقراطية، و يبقى الإصرار عليها وعدم التخلي عنها في وجه فساد وقمع الحكم السلطوي المركزي الدولتي؛ إنما يتسم بالأهمية والقدر الكبير. فتصيير الديمقراطية قناعاً لشرعنة السلطة أو الدولة أو المركزية، هو أفظع سيئة سترتكب بحقها. وينبغي عدم مطابقة الديمقراطيات مع السلطة أو الدولة أو المركزية الشديدة قطعياً. وخلط من هذا القبيل يعني استفحال القضايا الاجتماعية لدرجة عجزها عن إيجاد الحل.
إن الديمقراطيات والإدارة المجتمعية الذاتية الديمقراطية التي تحافظ دوماً على النشاط والحيوية وانتعاش الوعي السياسي واليقظة الأخلاقية لدى المجتمعات، هي ساحة الحل الحقيقي للقضايا النابعة من السلطة والدولة والمركزية. وليس هناك نظام له القدرة على حل القضايا الاجتماعية دون اللجوء إلى الحرب، بقدر ما هي الديمقراطية والإدارة المجتمعية الذاتية الديمقراطية. وعندما تتعرض سلامة المجتمع وابنائه وأمنه ووجوده لخطر داهم وكبير على يد السلطة والدولة والمركزية، فحينها تخوض الديمقراطية وعبر كل المجتمع ومع إدارتهم الحقيقة الحرب والدفاع والمقاومة بحماس ورغبة كبيرة، ولا تخسر فيها بسهولة بل تكون لها النصر لأنها تكون في الحرب الشعبية الثورية.
إن الخطر الأكبر الذي يهدد الديمقراطيات والإدارات المجتمعية الذاتية في عصر حداثة النظام العالمي الرأسمالية، يأتي من السلطات الدولتية القومية ومفهوم القوموية الضيقة والتي ضخها الاستعمار الخارجي لتفتيت المنطقة ووحدتها وتكاملها. فالدولة القومية التي كثيراً ما تموه نفسه بستار الديمقراطية، ترسخ المركزية الشديدة، قاضيةً بذلك كلياً على حق المجتمع وتكويناته المختلفة في الإدارة المجتمعية الذاتية. وتعمل الهيمنة الفكرية و الأيديولوجية الليبرالية المخادعة على إقناع الناس بكون خصائص الدولة القومية تلك التي في تضاد مع الديمقراطية بأنها عصر الديمقراطية، وتسمي دحض وتفنيد وتصفية الديمقراطية وتضيق ساحة النشاط والعمل والسياسة من قبل الدولة القومية بأنه نصر النظام الديمقراطي ونجاحه. فالقضية الحقيقية للديمقراطيات إزاء النظام العالمي الرأسمالي المهيمن وحداثته، هي عرضها سماتها ومميزاتها التي تميزها، وعدم التخلي عن خصائصها التي تتطلب المشاركة والسيرورة والتعاون والأخوة بين الشعوب وحرية المرأة وريادتها للحياة مع الشباب.
إن الكثير من قضايا المجتمع المدني والإدارات المحلية وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات والمساوة بين المرأة والرجل والأزمة الاقتصادية والإرهاب وغيرها، ومعظم القضايا القومية الكلاسيكية في راهننا؛ إنما هي نتيجة لقمع الدولة القومية المركزية للديمقراطية والإدارات الذاتية للمجتمعات والخصوصيات المختلفة ومحاولة تصفيتهم وإبادتهم. وحل هذه القضايا غير ممكن إلا بالتغلب على أرضية اغتصاب الحقوق، والتي رصفتها الدولة القومية بممارساتها ومركزيتها الشديدة. وما الطابع الفيدرالي للولايات المتحدة الأمريكية وكذلك لدولات الإمارات العربية المتحدة من جهة، وتطوير الاتحاد الأوروبي لنفسه من الجهة الثانية تأسيساً على اللامركزية وإعادة القيم الديمقراطية المسلوبة ونقلها شيئاً فشيئاً إلى المجتمع المدني والأفراد والأقليات والإدارات المحلية؛ ما ذلك سوى مؤشر أنها راجعت النظريات والتكتيكات الدولتية القومية طيلة قرون مضت بأكملها. ذلك أن هذا السياق الممتد ثلاثة قرون بحالها، قد أفسح السبيل أمام حروب ونهب وسلب واستعمار وإبادات وعمليات صهر وتغيير ديموغرافي لا نظير له في أية مرحلة من التاريخ. ومن هنا، فمثال الاتحاد الأوروبي خطوة تاريخية على درب العودة إلى الديمقراطية ولو بحدود ومستويات . وواقع المنطقة والعالم وتخبطهم في الأزمات ومحاولة ترتيب الاولويات والبحث عن مشهد إقليمي وعالمي جديد يرجح العودة إلى الديمقراطية والإدارات المجتمعية الذاتية ولو بشكل جزئي وتوافقي مع هيكل ونظام الدولة في بعض المناطق.
إن الفوضى الكبيرة والحروب والأزمات والقضايا في دول المنطقة و بين شعوبها ومجتمعاتها وهي من المناطق الأم للمدنية المركزية، تظهر حقيقة إفلاس الدولتية القومية و السلطوية المركزية التي تم فرضها وبشكل قسري على المنطقة، بكل نواحيها وبكل مستوياتها. فهذه الفوضى والفراغات والحروب والمشاكل والإرهاب والاستبداد والعمالة والتوطؤ أسقطت كافة الأقنعة والستائر عن الدول القومية والقوموية والسلطوية المركزية في دول المنطقة والعالم من تركيا وإيران و سوريا و العراق إلى فلسطين-إسرائيل ولبنان واليمن وليبيا والصومال وأفغانستان وباكستان والهند و روسيا وأوكرانيا ، وأكدت بأن السلطوية الدولتية والقوموية الضيقة الإلغائية والمركزية الشديدة يشكلون المصدر والمنبع للقضايا والأزمات، ومن الواضح للجميع ومن جميع النواحي أن الإرهاب والحروب والمجازر والإبادات والدواعش والإنكشارية والعثمانية الجديدة وكل مشاريع الاحتلال والتوسع التي لا تعرف حدوداً، تتغذى على هذا المصدر وتهيج أدواتها ومجتمعاتها بهذا الأفكار الغريبة عن ثقافة شعوب المنطقة المتسامحة والمتعايشة والمتكاملة.
في هذه الظروف و الأجواء وفصول الحرب العالمية التي تفتح هنا وهناك وحالات الاصطفاف والتبلورات الجديدة للأمن القومي والغذائي وغيرها، تظهر للوسط قوة الحل لدى الإدارة المجتمعية الذاتية الديمقراطية أي الديمقراطية المباشرة أو الراديكالية و التحول الديمقراطي والكونفدرالية الديمقراطية. أي أن الجغرافيا التي كانت مهداً لبزوغ فجر الحضارة والمدنيات والثورات الإنسانية في السابق ، يمكنها أن تشكل هذه المرة وبل أنها تشكل مهداً لإشراقة فجر الديمقراطية والحقيقية. وكما يقال كل شيء ينبعث من جديد على جذره وجذعه. فمن الوارد أن الديمقراطية أيضاً ستحقق ولادتها كاملةً وبنجاح على جذورها المخفية في الثورة النيوليتية في كردستان. وكما أنه بمقدور هذا المهد، الذي لا تبرح شعوبها تعاني من المجازر الجماعية والإبادات وتلحق به ضربات المدنيات المهيمنة المركزية، أن يعتني بولادة الديمقراطية أيضاً. أي أن هذه الأراضي والجبال في سلاسل زاغروس وطوروس، التي خسرت منذ أمد بعيد قوتها في الإدارة المجتمعية الذاتية الديمقراطية ومهارتها في كينونة المجتمع الديمقراطي، قد تكون شاهداً على نهوض الكورتيين والهوريين من جديد و الوقوف على أقدامهم مرةً ثانية.
إن الإدارة المجتمعية الذاتية الديمقراطية والديمقراطية المباشرة والحقة ، والأمة والكونفدرالية الديمقراطية، والعصرانية الديمقراطية كحداثة و التي يقول عنها الفيلسوف والقائد عبدالله أوجلان هي تعبير ممنهج عن جميع الظواهر هذه و التي بلغت مستوى وسياق تؤهلها للتكاثف و ولتحقيق انطلاقتها في مهد الحضارة لإشراقة فجر وشمس كردستان؛ وهي تباشر أداء دورها بوصفها بديلاً قادراً في وجه حداثة النظام العالمي الرأسمالية. ذلك أن العصرانية الديمقراطية بمجتمعيتها الديمقراطية وبحرية المرأة وثورة البيئة فيها يزداد أهمية وتألقاً وترسخاً تجاه ذاك النظام الذي يثبت إفلاسه ونهايته يوماً بعد يوم .
ويمكن حل المشكلة الأساسية الكامنة في العلاقات بين السلطة والدولة والمركزية من جهة والإدارة المجتمعية الذاتية الديمقراطية من الجهة الثانية، وهي ما يتعلق بمساحة العمل والتعبير والتنظيم و بقدرة كل منها في الحفاظ على الفوارق والمميزات التي تميزها عن غيرها، وترتيبها حسب الأولويات. وبكيفية القدرة على حل قضية السلام الاجتماعي والاستقرار والسلام الحقيقي. ومن خلال الأمثلة التاريخية والراهنة نشاهد أن المواقف الصفرية و إفناء بعضها البعض كلياً، لا تؤدي إلا إلى تحول سلطة الدولة لوحش اجتماعي فتاك، وإلى استمرار سياق الفوضى الكبيرة وتعمقها. وكل تجربة في الحل ضمن هذا الإطار، تكتم أنفاس المجتمع أكثر، وتستهلكه أكثر. وعليه، لم يتبق من الأزمة وحالة العقم السقيم سوى بشرية مضغوطة ومنحصرة في قوالب الاستهلاك، ومتنملة ومتأنثة تحت نير النفوذ المطلق للدولة. وقد تكون هذا الواقع توازياً مع الهجوم الشامل الذي شنته حداثة النظام العالمي الرأسمالية ضد المجتمع. أما نقاط ضعف الثورية القالبية الخيالية القاصرة عن تجاوز السلطوية، فتسببت وتسبب في تعزيز حداثة النظام العالمي الرأسمالية أكثر فأكثر كإدارة سلطوية مركزية نهبية.
للإدارة المجتمعية الذاتية الديمقراطية القدرة في التغلب على البنى الدوليتة القومية والسلطوية والمركزية الشديدة المتضخمة بأسلوبين: الأسلوب التغييري والأسلوب الإصلاحي. وبغض النظر عن الأسلوب المتبع والفترة الزمنية، في حل الإدارة المجتمعية الذاتية الديمقراطية التي لها القدرة في التغلب على البنى الدولتية القومية والسلطوية والمركزية الشديدة المتضخمة ، فإن النتيجة التي ينبغي استنتاجها هي أن جوهر الأمر يتمثل في المثابرة على وضع الخيارات المؤسساتية والعقلية والذهنية التي ستطور نظام العصرانية الديمقراطية في النظرية والتطبيق العملي. والأرجح هو الاحتمال بأن يضطر نظاما كلتا الحداثتين الديمقراطية والرأسمالية على العيش سويةً كما هي الحياة ، وتطوير الحلول الدستورية الديمقراطية، سواءً ضمن بنية الدولة القومية الأحادية، أو في ثنايا النظام العالمي العابر للقوميات والأثنيات والمناطق؛ وذلك كي يتمكن كلا النظامين من تذليل التناقضات وتعزيز العلاقات والتفاعل فيما بينهما. لأن الأسلوب التغييري الثوري والأسلوب الإصلاحي البرجوازي مع التجربة التاريخية لكليهما بينت أن الأسلوب المرتكز إلى الهدم الكلي لبنى حداثة النظام العالمي الرأسمالية عموماً والسلطة الدولتية القومية والمركزية الشديدة خصوصاً، تجسدت في المزيد من ترسيخ الدولتية القومية السلطوية المركزية، ولم تستطيع إحراز النجاح في تحقيق بنى المجتمع التي تطالب بالديمقراطية والحرية والمساواة والأخوة وحرية المرأة. وبينما عجزت الديمقراطية الإصلاحية كذلك عن الخلاص من الانحلال في بوتقة الحداثة المهيمنة والصهر فيها والذوبان.