الحدث – القاهرة
في محاولة فهمنا للمجتمع وإدراك ماهيته وخصائصه وأنسجته الديمقراطية من الحقلين السياسي والأخلاقي يظهر أمامنا مصطلح الثقافة، وهي من المفاهيم الأساسية في علم الإنسان(Anthropology)، لما لها من دور اساسي لفتح الآفاق والأبعاد، فيما يخصّ قراءة وتحليل الطبيعة الاجتماعية ومظاهرها وأبعادها المختلفة بسبب العلاقة الوثيقة والتكاملية والحتمية بين الثقافة والمجتمع , فالثقافة لا توجد إلا بوجود المجتمع والمجتمع لا يقوم ولا يبقى إلا بوجود الثقافة التي تنظم المجتمع وتعطيه الشكل وتكسبه الأداء، بل أن نهضة وحرية المجتمع وديمقراطيته وعدالته وتنميته ومصيره ، يتوقف في جزء كبير منه على الثقافة التي تعطي للحياة لونها وأنماط السلوكيات والمقاربات البشرية القادمة من تمثيل وتجسيد الثقافة التي تفيد وتعبر عن العالم الذهني المعنوي والسلوكي المادي والتراكمي الموروث والجديد للمجتمع وأفراده وخاصة في ظل عصر التقنيات والأنترنت وظهور الثقافة الرقمية إلى جانب الأنواع العديد من الثقافات المعروفة المهيمنة والاستشراقية التي تشكل تحدي للثقافة المجتمعية الحرة والديمقراطية.
تتعد تعارف علماء الاجتماع والإنسان والمهتمين بالحقل الثقافي والمجتمعي وعلم السلوك البشري والكوني حول مفهوم ومصطلح الثقافة، لأكثر من 200 تعريف، ومنهم وأهمهم ما قاله إدوارد تايلور(Edward Taylor ) ، الأنثروبولوجي البريطاني عن الثقافة بأنها”هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع”.
أما سايبر (Edward Sapir)، فوضع ثلاثة تعريفات للثقافة تكمّل بعضها البعض ، وهي :
أيّ صفة يتّصف بها الإنسان يكون مصدرها الإرث الاجتماعي.
مجموعة من الأفكار والمعلومات والخبرات التي تنتشر في مجتمع ما بسبب التأييد الاجتماعي لها، ويكون أساسها التراث.
مجموعة من الأفكار التي تدور حول الحياة والاتجاهات العامة ومظاهر الحضارة التي يتميّز بها مجتمع ما، وتكسبه مكانة خاصة في العالم.
أما تشيكالوف (Chekalov) وكوندراشوف (kundrashuf)، وفي كتابهما (تاريخ الثقافة العالمية) عام2011، توصلا إلى أن للثقافة منهج محدد. ويقوم على ثلاثة عناصر أساسية:
السلوك.
2- الاستمرارية.
3- التراكم، حيث وحسب رأيهم أن الثقافة لا تنتهي بمجرد انتاج أحد وجوهها، بل لا بد من وجود عملية تراكمية.
لكن روبرت بيرستد(Robert Bierstedt) عرف الثقافة بقوله : “إن الثقافة هي ذلك الكل المركب الـذي يـتـألـف مـن كـل مـا نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نتملكه كأعضاء في مجتمع”.
وكما أن كلايد كلوكهون((Clyde Kluckhohn قال عن الثقافة ” أنّها محتوى من الإرث الاجتماعي الذي قد وصل إلى الأفراد من المجتمع الذي ينتسبون إليه”.
أما مالينوفسكي (Malinowski) فعرف الثقافة على” أنّها أحد الطرق التي تعمل على التحسين من وضع الإنسان، حيث إن الشخص بواسطة الثقافة يستطيع التعايش مع التغيرات التي تحدث في مجتمعه أو بيئته عند تلبية حاجاته الأساسية”.
أما المفكر و القائد عبدالله أوجلان(Ebdullah Ocelan) فقال عن الثقافة ” أنها مجموع كينونات المعاني والبنى، التي كوّنها المجتمع البشريّ على مدار التاريخ. وبينما تعرّف كينونات البنى على أنها مجموع المؤسسات المنفتحة للتحول والتطور، فمن الممكن تعريف كينونات المعاني على أنها مستوى أو مضمون المعاني المتنوعة والغنية والمترابطة ببعضها البعض تبادلياً وبالتكافؤ ضمن تلك المؤسسات المتحولة” ، وكما أن المفكر والقائد أوجلان ، أكد على التعريف الضيق و التعريف الواسع للثقافة، فقال “التعريف الضيق للثقافة كثير التداول إلى حدّ ما. يعمل هنا بالأغلب على تحديد إطار الثقافة على أنها المعنى والمضمون وقانون البنية وحيويتها. وعندما يكون المجتمع موضوع الحديث، فإننا نعرّف الثقافة بمعناها الضيق بأنها عالم المعنى لدى المجتمع، وقانونه الخلقيّ، وذهنيته وفنّه وعلمه. وبتوحيد المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع هذا المعنى الضيق، يتمّ الانتقال إلى تعريف الثقافة بمعناها العام”
وأما ليزلي هوايت (Leslie White) فيقول عن الثقافة ” أنّها وسيلة تساعد الأفراد على تنظيم معتقداتهم، وقيمهم، ومعارفهم، وجميع الأشياء التي تعلّموها في حياتهم، والذي يشكّل في النهاية أنماط سلوكهم”.
وكما أن البعض ، قال أننا نستطيع القول أن الثقافة تندرج تحت أربعة تصنيفات أو مزيج من الأربعة :
1- عملية تنمية للنواحي الفكرية والروحية والجمالية والأخلاقية.
2- طريقة حياة و معيشية معينة في حياة مجتمع أو شعب ، أو مميزة لفترة من الفترات أو مجموعة من المجموعات.
3- جميع الأعمال والممارسات الخاصة بالنشاط الفكري والفني بصفة خاصة إضافة لإبداعات أبناء مجتمع أو شعب ما في الإنتاج والبناء وكافة مجالات الحياة.
4- طقوس الحياة الخاصة لمجتمع وأمة في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وغيرها.
وبالتالي، فإن الثقافة هي أداء و سلوك مجتمعي متوازن ومعيار هام في المجتمعات البشرية، و هي تشمل إطار الظواهر التي تنتقل من خلال التربية و التعلم والتفاعل والتأثير في المجتمعات البشرية. و تضمن الكلياتية الثقافية المتواجدة في جميع المجتمعات البشرية أنماط السلوك الإنساني، والممارسات الاجتماعية ، والأشكال التعبيرية مثل الفن، الموسيقى، الرقص، الطقوس، والتقنيات مثل استخدام الأدوات، الطبخ، المسكن ، والملابس، لكن هناك غالباً من يحاول إضعاف هذه الكلياتية التكاملية الثقافية المجتمعية وتفتيتها لإضعاف قوة المجتمعات وتكامل وتماسك أفرادها من قبل القوى السلطوية الدولتية والمركزية والجنسوية.
ويتضمن الكلياتية الثقافية المجتمعية لأي مجتمع وشعب :
1- مفهوم الثقافة المادية : والذي يشمل التعبيرات المادية للثقافة، مثل البناء والطراز المعماري و التكنولوجيا و الفن، والموروث التراثي المادي.
2- مفهوم الثقافة غير المادية : والذي يضم معايير ومبادئ الترتيب والتنظيم الاجتماعي و الأساطير والفلسفة و الأدب ، سواء المكتوب أو الشفوي الشعبي، والموروث التراثي الثقافي غير المادي للمجتمع.
وعليه يمكننا القول بأنّ الثقافة هي التركيب الجمعي أو المركب الشامل الذي يضمّ المعارف والإنتاجات البشريّة المختلفة، بما في ذلك العقيدة، والأخلاق، والقوانين، والأعراف وكلّ ما يكتسبه الإنسان من المجتمع الذي يعيش فيه، وبذلك يمكننا القول أن الثقافة لدى شعب ومجتمع معيّن هي كلّ ما يرتبط بأسلوب معيشته الاجتماعي، والفكريّ، والماديّ ، وهي عالم المعنى لدى المجتمع، وقانون الأداء وسياقه، وذهنيته وفنّه وعلمه وليس فقط الإنتاج الفنيّ والأدبيّ وحتى المادي المحدد المرتبط بفئة محدودة من تكوينات المجتمع وشرائحه ، بالإضافة إلى رموز التجسيد والانعكاس والتعبير للمجتمعات والشعوب وكل الخصوصيات . أي أن الثقافة تتضمن ثلاثية الفكر والقول والفعل بجوهرها ومظاهرها في المجتمع كما كانت لدى الفيلسوف والنبي زرادشت ، وكذلك تعبر الثقافة عن التفاعل ومنظومة العلاقات السياسية والاجتماعية و علاقات الإنتاج وأدواته بالإضافة للقانون والروح التي تنظم وتحرك هذه التفاعلات والعلاقات لما فيه من نتائج يتم بهدف الوصول إليها.
ومن المعلوم أن الحياة هي طبيعة مدركة لذاتها ، وهذه تظهر في الثقافة كمرآة للحياة وانعكاس لها، لكن هناك الطابع النسبيّ للمعرفة لدى أبناء المجتمع، وعلاقته الوثيقة بالطبيعة الاجتماعية. كما أن الإرث المجتمعيّ للذهنية والأخلاق والجماليات والعواطف والأفكار التي اكتسبها مجتمع ما. وهي وجود الهوية واللحظة الذي يدرك ويعبّر عنه بالنسبة للمعنى والعاطفة هي لحظة الترابط والانتماء إلى الثقافة المجتمعية. كما أن الإنسان صاحب الذكاء المتغول في العقائد أو الأفكار أو الأيدولوجيات الأكثر تصلّباً وقالبية، يغدو شخصاً بليداً وغليظاً وذات وعي خاطئ أكثر من الكائنات الحية تخلفاً. ولدى التفكير بمدى انتشار المجتمع والثقافة الدوغمائيّة، فإنّ نسبية العلم والثقافة لابد من ملاحظتها وضرورتها.
لكن المفارقة الاجتماعية الثقافية هي الفرد الذي يزعم أنّه حرّ في ظلّ الليبرالية التي تضخم الفردية والأنانية، وأيضاً الفرد الذي كبّلته الجماعية بقيود وأغلال وثيقة، فهما فردان مشوّهان بمعايير متماثلة، ومقصيّان من الحياة وثقافتها بصفتهما منفردين بذاتهما. ومن غير الممكن تعريف المجتمع والتعبير عن ثقافته اعتماداً على هكذا أفراد . فللمجتمع والفرد توازن مطلوب تحقيقه وللفرد إرادة وشخصية لا يجب أن تنصهر وتذوب بشكل كلي بل يجب أن يسود الانتماء والتكامل والتوازن والإرادة الحرة للشخص والمجتمعية الديمقراطية للمجتمع والشعب.
توجد أيضا وجهات نظر سلطوية ودولتية من الهرمية والمركزية والجنسوية حول الثقافة في التمييز الطبقي بين الثقافة الرفيعة للنخبة الاجتماعية وبين الثقافة المتدنية أو الثقافة الشعبية أو الثقافة الفكلورية للطبقات الدنيا، حسب وصفهم. وتتميز بالوصول إلى طبقة رأس المال الثقافي. ويتم رفض التعددية الطبيعية في الثقافة وثقافة الأطراف ويتم التركيز الثقافي في المركز لتكون تعبير عن المركز ومصالحه وسلطاته ووفق ما يخدم أجندته وأهدافه السلطوية دون عامة المجتمعات والشعوب، ويتم فرض الجنسوية الذكورية كثقافة للحياة واخضاع المرأة وعبرها بالتالي اخضاع المجتمع برمته. وربما احياناً تحقيق وحدة قصوى وقسرية بين المجتمع النمطي والسلطة لتكون الثقافة الفاشية الإقصائية والأحادية هي السائدة المتمثلة في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي بحق المجتمعات والشعوب الأخرى.
ومع وجود توجه رأسمالي لهضم كل الثقافات وثم إعادة ترتيبها وتنظيمها لتناسب ثقافة الاستهلاك الرأسمالية بما تخدم قمعها واستغلالها ونهبها لمجتمعات وشعوب العالم وثقافاتهم عبر عولمة الثقافات المجتمعية الغنية والمتنوعة والديمقراطية لتكون نمطية متجانسة، ليغدو الإنسان مغترباً عن ثقافة مجتمعه الأصلية التي ترشده لما هو لمصلحته ولمصلحة المجتمع، ليكون أداة في تأمين الربح الأعظمي للقوى الرأسمالية العالمية وتوابعهم من الدول القومية وسلطاتهم المتواطئة والتابعة .
لقد جادلت بعض النظريات النقدية، و مدارس الفلسفة ، أن الثقافة في غالب الأحيان ما تستخدم سياسياً كأداة للنخب البرجوازية السلطوية للتلاعب في الطبقات الدنيا وعامة الشعب عبر خلق وعي زائف وسلوك قطيعي مطيع، وهذه النظرة موجودة في بعض مجال الدراسات الثقافية و العلوم الاجتماعية، ويرى المنظور النظري للمادية الثقافية أن الثقافة الرمزية البشرية تنشأ من الظروف المادية للحياة البشرية، حيث أن البشر يهيئون الظروف للبقاء البدني، وأن أساس الثقافة موجود في التصرفات البيولوجية المتطورة.
وعندما نشير إلى المجموع أو الأمم أو الإثنيات أو البلدان أو المناطق أو الإقليم الواسع المختلطة، فإن “الثقافة” هي مجموعة الأخلاق والعادات والأعراف والتقاليد الديمقراطية والقيم المجتمعية المتسامحة والمتعايشة والموروث الروحي والمادي منذ القدم ، وهي مجموعة المعرفة الاجتماعية المتكاملة المكتسبة بمرور الوقت. وبالتالي فإن التعددية الثقافية سمة للأقاليم و تحترم وتقدر التعايش السلمي والاحترام والاعتراف المتبادل والخصوصيات بين الثقافات المختلفة التي تسكن نفس المنطقة والإقليم المختلط، لكن من حاول النيل من هذا التماسك والتكامل الثقافي كانت قوى الهيمنة الخارجية للنظام العالمي وعبر أدواتهم وثقافتهم السلطوية المركزية الدولتية والجنسوية ، التي تفتح المجتمعات والمناطق والأقاليم للاستغلال والنهب والقمع والهيمنة الخارجية. وحتى أن فكرة الثقافة
التي نشأت في أوروبا إبان القرنين الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر عكست بدورها حالة من عدم المساواة داخل المجتمعات الأوروبية وحتى في الشرق الأوسط إلا أن تم تداركها بمزيد من إعطاء المجال للمجتمعات ومنظمات المجتمع المدني داخل أوربا وإن لمستويات معينة بخلق وتنشيط ثقافاتها وتواريخهم كأي أرضية وظروف مناسبة للنهوض بأي مجتمع أو شعب أو أمة أما الشرق الأوسط فبقى على حاله من عيشها ثقافة مفروضة لا تحقق المساواة والعدل بين المجتمعات والشعوب حتى داخل الدولة والمدينة الواحدة.
لا يمكننا الحديث عن المجتمع بحدّ ذاته باعتباره وجوداً، إلا بوجود أرضية مؤسساتية ومعنىً جوهريّ له أي بوجود الثقافة ، فوجود مجتمع مؤسساتيّ بحت وخالص أو وجود مجتمع المعنى الخالص القائم بذاته، أمر كاذب ومضلّل . لأن المجتمع المنفرد بذاته لن يستطيع التحول إلى هوية، أو اعتبار ذاته، لكونه وجوداً وكياناً ، إلا إذا كان يتمتع بمستوى من المعنى والمؤسساتية.
ولا يمكننا الحديث عن معنى مجتمع ما أو عن ثقافته بعد تشتيته مؤسساتياً. وكما أنّ النتائج الظاهرة من فقدان المعنى والذهنية والجمالية الاجتماعية سيئة جداً. وفي هذه الحالة لا يمكن الحديث سوى عن سكرات الموت و التألّم لكيان هو أقرب ما يكون إلى كيان حيّ مقطوع الرأس. بمعنى آخر، فالمجتمع الذي يخسر عالمه الذهنيّ والجماليّ يكون ضعيفاً ومريضاً ومفتوح للقمع والاستغلال والتصفية الكلية.
بناءً عليه، ولتعريف مجتمع ما ثقافياً، يجب تقيمه ضمن تكامل كليّ على صعيد المؤسساتية والمعنى أي البنية والمضمون. و الأمثلة على ذلك هو واقع مجتمعات الشرق الأوسط و أفريقيا وعلى رأسهم المجتمع الكرديّ ونظراً لمعاناته من التمزّق العميق والخسران الذهنيّ مؤسساتياً ومعنىً على حدّ سواء، فهو مجتمع معرّض للإبادة الثقافية. وبالمثل كانت الكثير من المجتمعات الأصلية في المنطقة والتي لم تبقى منها شيء. مثل بعض الشعوب والمجتمعات التي يتم تشويش ثقافاتهم وتكوين مشوهين من الداخل ومتواطئين لضرب وإضعاف الثقافية الأصلية ومؤسساتها وتماسكها وإخراج الأسوء باسمهم، كما فعلها نظام الهيمنة العالمية ، بتكوينها حركات الإسلام السياسي السلطوي لتشويه الثقافة والتقاليد الإسلامية وضرب وحدة الشعوب الإسلامية الحقيقة، كما هو حزب العدالة والتنمية في تركيا والكثير من حركات الإخوان الإرهابية وتفرعاتها المختلفة من داعش والقاعدة والنصرة وما يسمى الجيش الوطني السوري ( الانكشاري التركي الجديد).
كما أن الثقافة والمجتمع تتعرّضان اليوم للعديد من التحديات، ولعلّ أبرز التحديات هو تحدي العولمة والرقمنة ومشاريع التمدد الإقليمية، الأمر الذي أفقد المجتمعات خصوصيّاتها الثقافية، فبدى العالم كقرية أو غرفة صغيرة مفتوحة على بعضها، ممّا جعل الكون يبدو كأنّه ثقافة واحدة، وبالتالي يشعر الإنسان نفسه أنه في حالة اغتراب عن مجتمعه، فمن ناحية يخضع لمنظومة ثقافيّة واجتماعيّة على أرض الواقع، ومنظومة ثقافيّة واجتماعيّة على وسائل التواصل الاجتماعيّة مختلفة وبينهما هوة كبيرة وهنا يبقى لمؤسسات إعداد الإنسان وتشكيل وعيه دور كبير أمام هذه التحديات الجديدة في ظل الوعي الزائف والمنحرف الذي يريده اصحاب المشاريع التوسعية كالعثمنة أو العثمانية الجديدة التي تستهدف كامل المنطقة.
من هنا يأتي دور كلّ فرد ومجتمع وشعب ودولة في تحديد ما يتناسب مع ثقافتهم، ومعاييرهم، و منظومتهم الأخلاقيّة والعمل على رفع مستوى الوعي والتعليم المجتمعي والتنوير لدى الأفراد و المجتمعات للعمل متكاتفين للتصدّي لكلّ ما هو لغير مصلحة المجتمع و دخيل عليها ولا يناسبها دون التعرّض لحقوق المواطن المتعلّقة بخصوصياته وإرادته الحرة وحرية اختياراته. وخاصة مع ظهور الثقافة الرقمية التي باتت لها دور في بناء المنظومة الثقافية للمجتمعات والدول وحتى الأفراد وتوجيههم لأجندات معينة وباتت تنافس وتحل محل الثقافات المحلية والمجتمعية في بعض المجتمعات وخاصة في المدن الكبيرة وبين الأجيال الشابة واحياناً بالتوجيه من السلطات المحلية والعالمية لإضعاف قوة المجتمعات التي ترى في تماسك هذه المجتمعات وترابطها عبر ثقافتها الأخلاقية والمقاومة والتي لا تقبل بالخضوع تهديد مستمر لهم . ولذلك هناك حالة لفرض ثقافة الاستسلام والقدرية بدل ثقافة المقاومة والمثابرة والنشاط في العمل للنجاح كما هو المجتمع الكردي الذي فيه ثقافتين ثقافة مقاومة العدو التركي وهي ثقافة الأمة الكردية الديمقراطية من جهة ومن الجهة الأخرى ثقافة الاستسلام له وشرعنة كل أفعاله كما يفعل أصحاب الفكر القوموي المتواطئين مثل حزب الديمقراطي الكردستانيPDK)) و ازياله بالعمل ضد الشعب الكردي وإرادته الحرة والمقاومة ومصالحه العليا كأمة .
ومن المهم التطرق إلى الجغرافية الثقافية (Cultural Geography) وهي التفاعل بين البشر والارض، حيث أن الجغرافيا والبيئة التي يتواجد فيها الإنسان والمجتمع لها تأثير بشكل كبير على كيفية تطوّر ثقافة الأشخاص والمجتمعات الذين يقيمون فيها و الأغلب أن الأماكن المعينة لها ثقافات معينة، فكل شخص يعيش في مكان ما يتكيّف مع الظروف التي تحيط به ويستجيب لها. وكل شخص يطوّر من سلوكياته وعاداته وأدواته للتأقلم مع المكان الذي يعيش فيه، والذي قد يكون إمّا صحراء أو سهول جافة وحارة ، أو مناطق جبلية عالية وأقطاباً شديدة البرودة، أو مدن كبيرة أو قرى أو في مركز المدن أو ضواحيها وغيرها. ويتفاعل الأشخاص مع معالم وجغرافية المناطق التي يقيمون فيها عن طريق الكثير من الأعمال، كتدمير وبناء أو تغيير، أو تحسين السمات الماديّة والنظم البيئيّة والاجتماعية والإدارية والاقتصادية التي تحيط بهم بما يناسبهم وبذلك إنتاج ثقافة تلائم جغرافيتهم واستمراريتهم .
تمثل الثقافة عامل مهم في نشوء الأمم والتركيبات المجتمعية والاتحادات الديمقراطية وحالات الثبات والإصرار على الحرية، لتعبيرها عن الذهنية التقليدية والحقيقة الروحية و العاطفية للمجتمعات. ويشكّل الدين والفلسفة والميثولوجيا والعلم و الفن ثقافة مجتمع ما بأحد المعاني، لكن العالم الثقافيّ يتعرض لتحريف وتحطيم كبيرين أثناء تكوين الأمم بيد الدول القومية أو الحركات القوموية. فحداثة النظام العالمي الرأسمالية لا تقبل بالتقاليد والثقافة كما هي عليه وبكلّ ما تملكه من حقائق وأبعاد مجتمعية حرة وديمقراطية. بل تنتقي منها ما تريد، وتقوم بإجراء التحول عليها وفق مصالحها وأجندتها وذلك بتشويهها وتخريبها. وهكذا، فما تعرضه على المجتمع والفرد ليس بثقافة ولا بتاريخ. وعندها يمكنها شرعنة الربح الأعظم أو تكديس رأس المال . أي إنه لا يمكن للحداثة المهيمنة وتوابعها الدول القومية أنْ يحققوا وجودهم وسلطتهم ومركزيتهم الشديدة دون إعادة إنشاء الثقافة حسبما تشاء.
كانت النهضة والتنوير الحاصل في أوروبا مع القرن السادس عشر و ما بعدها مع طيّ صفحة العصور الوسطى تعني عودة الإحياء أو انبعاث الثقافة و التاريخ الإغريقيّ–الرومانيّ. وتم بذلك النجاح في التحول الوطنيّ الديمقراطيّ. لقد كان ذلك عودة التقاء كلّ شعب بثقافته و بتاريخه الذاتيّين من خلال تجاوز النزعة الكاثوليكية العالمية، وعودة كل شعب لهيكلة نفسه كأمة ديمقراطية. و كانت العناصر النابعة من الثقافة و التاريخ سائدةً بداية التحول الوطنيّ في أوروبا. أي أن الملامح الديمقراطية هي التي كانت السائدة ضمن الأمم الناشئة. لكنّ تصاعد الميول الطبقية بعدها لدى البورجوازية وهيمنتها في الثورة الفرنسية؛ حوّل طابع الأمم الديمقراطية إلى الأمم الدولتية السلطوية المركزية الجنسوية أي سيادة الثورة المضادة على يد الدولة القومية في وجه الملامح والأمة الديمقراطية وثورتها وضد تعاون الأمم وأخوة الشعوب وحرية المرأة وريادة الشباب. وبالمثل فإن الثقافة والتاريخ والتقاليد الديمقراطية المشتركة التي جمعت الكرد والترك والعرب والفرس والسريان الأشوريين والأرمن وباقي الشعوب في كردستان والأناضول وحوض النيل وبلاد الرافدين والجزيرة العربية في محطات مشتركة وحالة ديمقراطية وتشكيل ثورة ديمقراطية لها ثقافة تكاملية مجتمعية وبلدان مشتركة لكل الشعوب تأمر وانقلب عليها من كانوا من الفكر الماسوني العالمي وأدواتهم القوموية من الأحزاب والحركات الشوفينية العنصرية القوموية مثل جمعية الاتحاد والترقي ، فهؤلاء هم أصحاب الثورة المضادة المنادون بنزعة الدولتية القومية المركزية، والذين وبوصولهم لسلطة الدولة في تركيا عملوا على البدء بتنفيذ الإبادات الثقافية إلى جنب الإبادات الفيزيائية والجسدية. والحالة نفسه مع أحزاب البعث في سوريا والعراق والشيعة القومية في إيران فهم ثورات مضادة للثورات الديمقراطية الشعبية لكافة الشعوب والمجتمعات والخصوصيات في بدايات القرن العشرين.
وعليه كل نهضة وتنوير وبناء مجتمعي ديمقراطي يمر من الحقل الثقافي الواسع. ومن دون الإدراك والفهم الكافي لثقافات الشعوب في المنطقة وأهميتها في منظومة الحياة ، لا نستطيع بناء وتطوير علاقات و تحالفات استراتيجية و وحركات الأمة الديمقراطية لشعوبنا التي تتشاطر نفس الجغرافية والدول المفروضة عليهم.
وبذلك يرتبط الحلول الديمقراطية والسلمية لأي قضية وطنية كما القضية الكردية أولاً بالتعريف الصحيح للثقافة وللتاريخ الكرديّ أي التعريف الصحيح للوجود المجتمعيّ الكرديّ . ذلك أنّ التحول إلى مجتمع وطنيّ يعني امتلاك الوعي والروح اللازمين بشأن الثقافة والتاريخ. وإن إنكار وإبادة الكرد في الدول التي تم تقسيم الكرد عليهم ، بدأ بإبادة الوجود الثقافيّ وبإنكار التاريخ الكرديّ. حيث تم البدء بالقضاء على المقوّمات الثقافية المعنوية، ثم على مقومات الثقافة المادية للشعب الكردي، فتم منع اللغة الكردية أهم عنصر في الثقافة من التدريس في المدارس والجامعات وحتى الجوامع والثكنات والأسواق و تم تغيير أسماء المدن والمناطق الكردية بين التتريك والتفريس والتعريب في الدول الأربعة إلى اليوم ومنع ومحاولة تصفية كل ما يمت للكردياتية بصلة بالتوازي مع الإجراءات الأخري والتي جمعت الإبادة البيضاء( الثقافية) والإبادة الحمراء(العسكرية) بحق الشعب الكردي.
ولهذا الاسباب، كان بدء حركة حرية كردستان ، حزب العمال الكردستاني (PKK) بتأسيس نفسه بالوعي والفهم الثقافي و التاريخيّ بدايةً موفقة. فنضاله الهادف إلى إيضاح وشرح التاريخ والثقافة الكرديّين بمقارنتهما بتاريخ وثقافة شعوب العالم، والتعبير عن ذلك متجسداً في خصوصية الثورة الكردستانية الديمقراطية؛ لعب دور النهضة الثورية والتنوير الثقافي لبعث الحياة ثانيةً في الثقافة والتاريخ الكرديّ . وبالمقدور القول أنّ الكرد حققوا بدايةً صحيحة ومتينة على درب التحول الوطنيّ الديمقراطيّ مع حركة الحرية وتم بناء سياق مجتمعي ديمقراطي حر قادر على الصمود وا
لمقاومة في وجه قرار الموت الذي تم فرضه من قبل نظام الهيمنة العالمية بحق الكرد مع تقسيمهم وإبقائهم بدون أية حقوق. أما الوجود الثقافيّ الكرديّ تزامناً مع قفزة آب 1984 و انطلاق الدفاع الذاتي، فقد أثبت جدارته في تبلور المجتمع والحياة والثقافة الحرة مدعوماً بعشرات الآلاف من الشهداء الخالدين من ابناء وبنات الشعب الكردي. ولم يكن باستطاعة الكرد أنْ يستمروا بوجودهم لولا النهج والطراز الثقافي و الأيديولوجيّ والسياسيّ لـPKK وللحرب الثورية الشعبية ، ولولا إحيائه وعكسه للثقافة والتاريخ الكرديّين بصيغة صحيحة وصادقة.
إن بناء الأمة الديمقراطية الكردية يتميز من حيث الجوهر والمضمون والبنية أي من حيث الثقافة عن الأمم التي يراد تطويرها بسياقات قوموية ودولتية وجنسوية وسلطوية مركزية. وهو يختلف عن قوموية الدول القومية الحاكمة، وحتى عن القوموية والدولتية الكردية العميلة. و يبرز إنشاء الأمة الديمقراطية مقابل ذلك كبديل يستند إلى ثقافات الشعوب والمجتمعات وتاريخهم. و تجهد الأمة الديمقراطية إلى تكوين نفسها من خلال إعادة المعنى الحقيقيّ إلى الثقافة والتاريخ أي أن الثقافة و التاريخ المعرّضين للتشويه والإبادة يشهدان النهضة والتنوير خلال التحول الوطنيّ الديمقراطيّ.
يتبنى منظومة المجتمع الكردستاني KCK)) في سياق بناء الأمة الديمقراطية الكردية الدور الذي أداه الكرد كفاعل وكعنصر أصليّ مشارك في الثورات المجتمعية و الوطنية والتغيرات أثناء تشارك الشعوب في نضالات الحرية والديمقراطية والتخلص من الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي وبناء الحياة المشتركة الديمقراطية والحرة المستندة لتكامل الثقافة الديمقراطية والحرة لمجتمعات وشعوب المنطقة. فالمنظومة تعتبر هذه الثورات المجتمعية والديمقراطية الجمعية هي للكرد كما كانت للحلفاء من الشعوب الأخرى المشاركين فيها. و تنظر إلى إقصاء الحلفاء وإنكار ثقافاتهم وتواريخهم في الفترات اللاحقة أنه انحراف و انقلاب على الطابع المجتمعي والديمقراطي والتقاليد والموروث الشعبي المشترك والتكامل الثقافي. وعليه، فهو يعتبر مقاومة الكرد ضد ذاك الانقلاب شرعيةً وديمقراطية وحرة ومباركة.
وعليه، فإن السياق و مقاربات PKK وKCK الأيديولوجية والسياسية والثقافية واضحة، فهما منفتحان على الاتحادات والتحالفات الوطنية الديمقراطية الأوسع مع مجتمعات وشعوب المنطقة لمواجهة كافة التحديات، انطلاقاً من منظور الأمة الديمقراطية وثقافتها والمنفتح على الشعوب والمجتمعات الأخرى والمتشاركة معها العيش في المنطقة والإقليم. بالإضافة أنهما يعتبران تشيد وهيكلة الاتحادات والتشكيلات و تجديد محطات البناء والعمل المشتركة الموجودة وفق الثقافة الديمقراطية ضمن الثقافة الشرق أوسطية على مدى التاريخ كالأمم الإسلامية مثلاً سبيلاً إلى الخلاص والحرية والديمقراطية لشعوب الشرق الأوسط. و الأمة الديمقراطية الكردية، مع الماهية البنيوية خلال سياق مقاربة KCK ونضالها، تقدم بكلّ أبعادها تجربة إعادة البناء الوطنيّ والتحول الديمقراطي، ليصبح نموذجاً للشعوب في الشرق الأوسط. ومقابل إنكار الثقافة الديمقراطية والتاريخ المشترك، التي تجسدها سلوك الدول القومية التابعة والمتواطئة مع نظام الهيمنة العالمية (المجتمع الدولتي)، فإن عصر العصرانية الديمقراطية تزامناً مع نهضة الأمم الثقافية والثورية والديمقراطية هي الصحيحة وهي التي ستكون لها ولمن يتحالف معها النصر والنجاح .
وهكذا، فإن الثقافة وبعالمها الذهني والجمالي والسلوكي والتراكمي والرمزي للمجتمعات والشعوب ، هي التي تعطي للحياة ترتيبها ولونها وأولوياتها ، وما من قضية اجتماعية وأزمة إلا وفي اساسها ، تم تشويه الثقافة وانحرافها عن المعنى والفعل الأخلاقي الخادم لكل أبناء المجتمع والموجد للحلول، وكما للإدارة الذاتية المجتمعية الديمقراطية ثقافتها التي تعطيها التميز والثبات والتوفيق فإن للنظم السلطوية الدولتية والمركزية وراعيتهم الرأسمالية العالمية أدواتها وسعيها لتشويه الثقافة وبعثرتها وتهديم بناه المجتمعية حتى تستطيع التحكم والهيمنة. وكل سياق و بناء وتركيب مجتمعي ديمقراطي يستند إلى إحياء الثقافة والتاريخ سيكون له النجاح والاستمرارية لأنه سيكون صاحب هوية واعتبار له مؤسساته ومعانيه التي توجد له الكيانية والوجود والكينونة وسيكون بذلك قادر على إجراء التحول الديمقراطي وبناء الديمقراطية المنشودة .