الحدث – القاهرة
بعد عشرات السنيين من تقسيم المنطقة وشعوبها وحالة النظم القوموية والإسلاموية التي فُرضت على المنطقة، علاوة على فشل هذه الأزمة في إدارة الشعوب والبلدان أو الدولة القومية ومع تصاعد ظاهرة الفقر والبطالة وكذلك التهميش والأحادية والإقصاء من قبل هذه النظم، وخاصة القومية التي جسّدت حالة وظيفية أداتية وتبعية مطلقة للهيمنة العالمية وللرأسمالية الاحتكارية، حيث سُرقت ونُهبت موارد المنطقة وشعوبها وتطبيق حالات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي لخلق الأمم الدولتية النمطية التجانسية البعيدة عن ثقافة وقيم المنطقة والإنسانية التي تمتاز بالتعدد والتنوع القومي والديني والمذهبي عبر هذه الدول والأنظمة القومية التي تجسّد تركيز السلطوية الفاشية.
تحركت شعوب المنطقة ومجتمعاتها وغالبية قطاعاتها ضد هذه الأنظمة وبشكل كبير، وخاصة في بعض البلدان العربية. ولكن هذه التحركات كانت في غالبيتها تفتقد إلى تنظيم أو قيادات واعية ذات خبرة نضالية قادرة على حمل هموم الناس وأهدافهم، بل إن العفوية والشبابية كانت السمة السائدة. بالإضافة إلى تحرك قوى الإسلام السياسي، وعلى رأسها التيارات الإخوانية، ومعها الدولة الإقليمية التي رأت الفرصة مناسبة لتحقيق وإعادة أمجادها مع حالة الوهن والضعف التي أصابت المنطقة، كتركيا وإيران وإسرائيل، علاوة على تحركات أكبر من القوى العالمية التي ربما كان لها اليد الطولى في توجيه بعض الدول الإقليمية وأدواتها المحلية لضبط مسار وسياق الثورات والتحركات الجماهيرية والانتفاضات إلى خدمة مصالحها وأجندتها واستمرارية هيمنتها على المنطقة ونهب مواردها وقيمها المادية والمعنوية.
وبعد نحو 11 سنة من الثورات والانتفاضات التي أسماها البعض الربيع العربي والبعض الآخر ربيع الشعوب، والبعض الأزمة وأحياناً سُميت بالخريف بعدما خلّف بعض التحركات ونتائجها بعد التدخلات الإقليمية والعالمية حروباً أهلية وآثار سلبية على المنطقة ودولها وحتى مجتمعاتها وشعوبها.
ولكن في قلب هذا المشهد المعقّد وربما البائس وحالة اليأس، هناك ثورة مختلفة في شمال سوريا (روج آفا) انطلقت كذلك مع ثورات وتحركات المنطقة وانتفاضات شعوبها وشبابها ونسائها، في 19 تموز/ يوليو، وهي تجسّد حالة انعطاف تاريخية، وتختلف عن ثورات العالم وثورات الربيع العربي بأمور عديدة منها:
أو ذات اعتبار في شمال سوريا، وهي تستند إلى مفهوم الدفاع الذاتي للحماية وتحقيق الديمقراطية عبر الإدارات الذاتية الديمقراطية لكافة التكوينات والخصوصيات المختلفة ضمن الحدود الموجودة في إطار من الوحدة الديمقراطية والتكامل الحقيقي.
ويمكننا القول إن ثورة 19 تموز هي ليست انقلاباً أو ثورة للوصول إلى السلطة من أجل أشخاص أو طبقة أو فئة والحكم، بل هي ثورة اجتماعية شاملة متكاملة، وعلى رأسها ثورة المرأة الحرة والشباب الواعي والمنظم، ولعل أهم ما يميز ثورة شمال سوريا وشرقها هي نموذج المرأة الحرة التي أصبح طريقاً وخياراً للمرأة وموديل على مستوى المنطقة والعالم وليس على مستوى شمال سوريا وشرقها أو سوريا عامة، فالمرأة في شمال سوريا تشارك في كافة المؤسسات الاجتماعية والسياسية والدبلوماسية الثقافية والتنظيمات المختلفة والهياكل المدنية والعسكرية والأمنية، فالرئاسة المشتركة في كل أعمال ولجان ومؤسسات الإدارات الذاتية كلها، كما أن أي قانون أو عمل أو اجتماع لا يكون شرعياً وقانونياً إلا بوجود المرأة وإرادتها وقرارها الحر فيه. والمهم أن المرأة حاضرة بقرارها وتمثيلها لجنسها وإرادتها الحرة وليس فقط الحضور الشكلي والبارفاني والمزهري كما هي في ثورات الربيع العربي أو في مؤسسات والمشاهد الدولتية في الدول القومية وفي المؤسسات الدولية ذات الطابع والمنشأ والعقلية الذكورية. وعليه فثورة شمال سوريا هي ثورة المرأة الحرة، والأصح أن نقول إن ثورة 19 تموز تجمع وتضمن عدة ثورات في داخلها.
ومن المهم الإشارة إلى الأرضية السياسية والاجتماعية والفلسفية التي استندت إليها ثورة شمال سوريا، وهنا لا بد أن نذكر القائد والمفكر عبد الله أوجلان، صاحب الفضل الأول منذ قدومه إلى سوريا ولبنان عام 1979 وحتى خروجه، فهو الذي مهّد الأرضية والذهنية والأداء المجتمعي الكردي المنظم بالتشارك مع الشعوب الأخرى المتعايشة والمتشاركة مع الشعب الكردي، فقد قام بإعداد وتدريب الشخصية والمجتمع الكردي، وبكافة أبعادها. وكما أن المفكر والقائد وبعد المؤامرة الدولية بحقه وسجنه لأكثر من 23 عاماً، قدّم خلاصة أفكاره وتجربته ضمن مرافعاته وكتبه وأصبحت هذه المرافعة والكتب والخلاصة الفكرية والفلسفية منهلاً ومرجعاً وموجهاً سياسياً وأيدولوجياً وفكرياً لثورة شمال سوريا وشرقها.
لثورة شمال سوريا بُعد إقليمي وعالمي فهي تمثل البديل لنظام الهيمنة العالمي وللدولتية القومية
الأحادية بطرحها الإدارات الذاتية كجسد وتجسيد عيني، أو الأمة الديمقراطية كنظرية بديلة للدولة القومية وللاحتكارية الرأسمالية العالمية وتقسيماتها وتفتيتها للمنطقة. فثورة شمال سوريا تبحث عن الحل وطرقه وأدواته ضمن المجتمعات والشعوب وتنظيمها وتوعيتها وتدريبها لبناء ثقافة ديمقراطية تشاركية تؤمن بأخوة الشعوب وبالتعددية والاحترام والاعتراف المتبادل ضمن الحدود الموجودة. وهي لا تهدف إلى هدم الدولة القومية أو بناء وحدة جديدة بل تؤمن أنه يجب أن يكون للمجتمع ساحته الحرة للتعبير والتنظيم والعمل والنشاط وفق دستور ديمقراطي يتوافق فيه بين القوى الديمقراطية المجتمعية والقوى السلطوية الدولتية على أساس تحقيق هدف الأمن والاستقرار والسلام الحقيقي القائم على حق المجتمعات في الدفاع الذاتي والسياسة الديمقراطية ووضعها في الدستور التوافقي الديمقراطي. وبهذا يمكن لثورة شمال سوريا أن تقدم نموذجاً لشعوب ومجتمعات المنطقة وأممها بأن يكون هناك كونفدرالية الأمم الشرق الأوسط الديمقراطية بديلة عن الأنظمة القوموية والإسلاموية والمقاربات الجنسوية والوضعية. وهنا تقدّم ثورة روج آفا أو شمال سوريا وشرقها بشكل عام نموذجاً للعلاقات والأخوة بين المجتمعات والشعوب وموديل ناجح للعلاقة العربية – الكردية التي يجسدها نموذج الإدارات الذاتية الديمقراطية وقوات سوريا الديمقراطية التي حررت الملايين من العرب والكرد وشعوب المنطقة من إرهاب داعش والقاعدة. فلقد قدّمت قوات سوريا الديمقراطية وشعوب شمال وشرق سوريا ملحمة للمقاومة والانتصار على داعش بتقديمها أكثر من 11 ألف شهيد وأكثر من 22 ألف جريح؛ لإنقاذ أهل سوريا وبكافة مكوناتهم وكذلك إنقاذ المنطقة والعالم وبالتعاون مع التحالف الدولي لمحاربة داعش بعد عام 2014وصولاً لعام 2019 وهزيمة داعش في الباغوز واستمرار محاربة خلايا داعش حتى الآن، علاوة أن منظومة الإدارة الذاتية وثورة شمال سوريا كانت ولاتزال القوة التي تدافع عن وحدة سوريا وسيادتها وسلامة أراضيها، وخاصة ضد الاحتلال التركي ومرتزقته الذين أرادوا الانتقام لهزيمة داعش وضرب وإضعاف المشروع الديمقراطي في شمال وشرق سوريا، وهي القوى التي ستحرر وبالتعاون مع كافة السوريين كل شبر من الأراضي السورية المحتلة ولذلك يتم استهدافها وإبعادها عن المحافل السياسية الدولتية؛ كونها تجسّد إرادة وطنية سورية ديمقراطية لا تقبل الخنوع والتبعية لأحد، على الرغم من علاقاتها المتعددة والمتنوعة مع الكل لما فيها مصلحة الشعب السوري وحلّ الأزمة والقضية السورية وبناء سوريا الديمقراطية اللا مركزية.
وعليه تمثل ثورة شمال سوريا انعطافة كبيرة في تاريخ الشعب الكردي والعربي وشعوب المنطقة بشكل عام؛ لما تقدم من حلّ ديمقراطي مجتمعي للأزمات والقضايا الوطنية في المنطقة. فحالة التكاتف والتعاون والأخوة والعلاقة الديمقراطية بين كل التكوينات المجتمعية فيها، وكلٌ بلونه وثقافته ولغته وخصوصيته ضمن تكامل ووحدة ديمقراطية كلية طوعية متينة ضمن الإدارات الذاتية، قادرة على مواجهة كافة التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية. وبذلك تقدم طريقاً وسبيلاً لمجتمعات وشعوب ودول المنطقة لحل أزماتها والخلاص من التبعية للخارج وردع المشاريع الإقليمية التوسعية الاحتلالية بتضافر وتفعيل جهود كافة أبنائها وبخلق جبهة داخلية قوية على أساس الاعتراف والاحترام المتبادل بين كافة مجتمعات وشعوب وأمم المنطقة، بتطبيق نموذج الإدارات الذاتية والتحول الوطني الديمقراطي وبناء الديمقراطية.