حياتنا “الطبيعية الجديدة” هل ستكون طبيعية؟
مرح البقاعي
من شأن الكوارث التي تصيب العالم، الطبيعية منها والتي هي من صنع الإنسان، أن تحفّز العقل البشري على تطوير آليات وطرائق جديدة لمواجهة ذيول تلك الكوارث وآثارها السلبية على حياة أهل الأرض. وفي كل مرّة تتعرض فيها البشرية لتحديات كبرى، نجد الحكومات والمنظمات المعنية والأفراد ينخرطون في ابتكار السبل لاستمرار الحياة وعودتها إلى توازنها الطبيعي.
اليوم، والعالم يواجه كارثة صحية مرعبة وصل عدد ضحاياها، منذ ثلاثة أشهر فقط وحتى تاريخ كتابة هذه السطور،إلى ما يقارب /300/ ألف وفاة في العالم، وعدد المصابين الذين لم يتعافوا بعد إلى أربعة ملايين مصاب، بينما اجتاح وباء “كوفيد 19” المرعب الذي خرج لنا من مدينة ووهان الصينية /188/ دولة ناشراً الموت والخوف والخواء.
نعم، الحياة ما بعد جائحة “كوفيد 19” لن تكون أبداً كما كانت قبله، وهذا الأمر سيسري على دول العالم بأسرها لا فرق بين شرق وغرب أو شمال وجنوب، بين دول فقيرة وأخرى غنية، بين شعوب منفتحة ومتقدّمة وأخرى نامية أو منغلقة على نفسها، طالما أن فيروس كورونا الذي سبّب جائحة “كوفيد 19” قادر على أن يطال الكل، وبلا استثناء.
وإثر تعليق وقائي لفعاليات الحياة اليومية العامة والخدمية والحكومية، وإغلاق المحال التجارية والمؤسسات الإنتاجية ماعدا تلك المختصة بالمواد الطبية الوقائية أو العلاجية للمرضى، وتوقّف الحياة خارج المنازل بما فيها الأعمال التي تحتاج إلى تواصل مباشر بين الأشخاص، جرى التعويض سريعاً عن حركة الشارع من خلال التواصل الافتراضي عبر شبكة الإنترنت، وقد غدت منصاتها على اختلاف أسمائها وخدماتها بديلاً لصالات التجمّع العامة وقاعات المؤتمرات والمراكز الرسمية، في محاولة لمتابعة الحياة المهنية المعتادة ولو بقدر يسير من الإنجاز.
أما المدن الحديثة كالعاصمة الأميركية واشنطن التي أعيش و أعمل فيها منذ ربع قرن، فلم تصّمم البتة على فكرة العيش وراء جدران المنازل، بل العكس تماماً هو الصحيح في مدينة بهذا الحجم من زخم الحركة السياسية والتجارية والخدمية.
إلا أن الملايين منّا، هنا في الولايات المتحدة، وفي شتى أنحاء الدول التي أصابتها الجائحة، لن يتمكنوا من العودة إلى العمل في أماكن عملهم السابقة دون إجراء تغييرات جذرية في التصميم الداخلي وإعادة توزيع المكاتب وأماكن الانتظار والاجتماعات مراعاة لتعليمات التباعد الاجتماعي الذي هو شرط أساس لمنع انتشار العدوى ريثما تتمكن مراكز البحث والمخابر العلمية من إيجاد لقاح ناجع يمنع الإصابة بفيروس كورونا المستجد. أما وسائل المواصلات العامة كالقطارات ومترو الأنفاق والطائرات، فستخضع لظروف جديدة تماماً من حيث توزيع المقاعد والتباعد بين المسافرين وطبيعة الخدمات والوجبات التي تقدّم أثناء السفر والفحوص الطبية التي ستكون إلزامية لكل راكب قيد الانطلاق في رحلته.
البروتوكولات الملزِمة للتواجد في الأماكن العامة ستكون موحّدة وأساسية، وستسري على المرافق العامة من المطاعم ومراكز الحلاقة والتجميل وصالات الرياضة والمقاهي إلى النوادي الليلية وصالات الاحتفالات ودور السينما والمسرح؛ حيث سيكون ارتداء مريدي هذه الأماكن الأقنعة أمراً مفروغاً منه، وسيحملون باستمرار مطهر اليدين الشحيح في الأسواق في حقائب اليد، وسيتعيّن عليهم غسل اليدين عشرات المرات مع تجنّب لمس الوجه قبل تعقيم الذراعين حتى الأكواع تماماً كما يفعل الطبيب الجراح قبل أن يلمس مشرطه جسد مريضه.
أما في حيّز التعليم، فقد أثبتت الفترة التي تحولت فيها المدارس والجامعات إلى إعطاء الدروس (أونلاين)، أن قدرة التركيز والمتابعة أصبحتا أعلى لدى معظم الطلاب، وأنهم أصبحوا يستثمرون الوقت بشكل مركّز أكثر خلال تلقيهم الدروس من معلميهم عبر شاشات الكومبيوتر ووسائط التواصل التفاعلية. وقد يكون ازدهار التعليم عن بُعد من الإيجابيات النادرة لـ”كوفيد 19″ على بشاعته، حيث أصبح مرجّحاً أن يسير العالم باتجاه توسيع منظومته حتى بعد العودة إلى حياة طبيعية جديدة “نيو نورمال لايف”، وسيكون لحضور المحاضرات والحصول على شهادات علمية أونلاين الريادة والأفضلية في عالم ما بعد “كوفيد 19”.
ومن اللافت أن الجائحة ساعدت في ازدهار مشاريع الأعمال الصغيرة التي لا تحتاج إلى عدد كبير من الموظفين والتي يمكن إدارتها بالتناوب، عن بعد عبر الإنترنت، وبالتواجد الفيزيائي لبعض الوقت في موقع العمل حين الحاجة. وسيكون بإمكان هذه المشاريع الصغيرة أن تحفّز عجلة الإنتاج التي أصابتها الجائحة بالعطالة، وستسرّع من دورة الاقتصاد في مجتمعات حديثة وديناميكية تحتاج إلى خدمات يومية عاجلة يمكن أن توفرها تجارة التجزئة والأعمال الخدمية المحلية.
ومع حالة الاسترخاء التي يعيشها الناس خلال بقائهم الاضطراري في المنازل، يبدو أن المظاهر الاجتماعية الرسمية والمتكلّفة في بعض الأحيان، ستبدأ بالأفول شيئاً فشيئاً. وستتحول الأموال التي يصرفها زبائن المتاجر الكبرى على الثياب الثمينة الضيقة وأحذية الكعب العالي ومساحيق التجميل إلى سوق الإنترنت، حيث يستعاض عن تلك الكماليات بشراء المطهرات المنزلية والبحث عن أفضل أنواع الكمامات وقاية وأكثر القفازات ذات الاستعمال الواحد نعومة لاقتنائها. وستكون الأحذية المريحة للمشي والتريّض بعد ساعات جلوس طويلة في البيت وكذا الملابس العملية والمريحة في مقدمة خيارات سكان العالم “الطبيعي الجديد”.
إلا أن ما سنفتقده وسيرهق غيابُه وجداننا لوقت ليس بالقصير، هو ذاك الدفء الذي يسري في العروق حين نشدّ بيدنا على يد صديق أو نعانق حبيباً عائداً بعد غياب. وحين يصير التباعد الاجتماعي عادة نألفها خارج اختيارنا، سنكون وحيدين تماماً لكل الوقت في “حياتنا الطبيعية الجديدة”، هذا إذا افترضنا أن هذه الحياة ستكون طبيعية بالفعل.
– نورث يرس