محمد أرسلان علي
أياماً قليلة مضت على تفجيرات بيروت وما زالت النار متَّقدة تحت صفيح منطقة مشرق المتوسط التي لا يمر فيها يوماً وإلا تتعرض لحوادث وفواجع تصيب الانسان والمجتمعات بالصدمات وتجعله مذهولاً. ما حصل في بيروت لا يمكن تفسيره بسطحية مجردة بعيداً عمَّا يحدث في المنطقة عامة. تفجير كان رسالة للداخل اللبناني وكذلك للقوى الاقليمية المتحكمة بمصير لبنان منذ ثمانينات القرن المنصرم. حيث كان النظام الحاكم توافقياً أكثر مما هو نظام إدارة شؤون الدولة اللبنانية والمجتمع اللبناني. توافقياً طائفياً نابع من رحم اتفاقية الطائف 1989 التي كانت ولاّدة ذلك الاتفاق الهش ما بين القوى المتصارعة على لبنان، وأما الحكومات المتعاقبة لم تكن سوى ذاك الكومبرس الذي يؤدي وظيفته ويسرق ما يحلو له حتى تنتهي مهمته ليسلمها لحكومة لاحقة وإن لم تختلف عن بعضها البعض كثيراً. هي الوجوه عينها التي كانت تتحكم بمصير لبنان منذ الطائف وحتى الآن والذي كان ضحيته الأولى رفيق الحريري في 2005، وليستلم الحريري الابن مقاليد الحكومة على رماد جثة أبيه والتي لم تنتهِ المحاكمة بشأنه، وحتى أن تفجير بيروت كان قبل المحكمة بأيام قليلة وكأنهم يقولون لننسى الحريري وليغفر الله له، لأننا سندخل مرحلة جديدة في لبنان.
لبنان الذي كان مركز ثقل بالنسبة لسوريا منذ ثمانينات القرن الماضي تحول بعد أن تم اخراج سوريا إلى حديقة أو خندق أمامي لإيران على مياه المتوسط، طبعاً تركيا التي عينها لم تغفل أبداً عن لبنان حتى هذه اللحظة تسعى بكل امكانياتها للبحث عن موطئ قدم لها في المناطق السنية وخاصة طرابلس والتي راحت تركيا تدغدغ مشاعر التركمان فيهم ويعدهم أردوغان بالجنسية التركية. وفوق كل ذلك هناك فرنسا التي لا زالت ترى لبنان منطقة انتداب ونفوذ لها منذ الحرب الكونية الأولى وحتى هذه اللحظة وإن خرجت فرنسا، إلا أن اللغة والثقافة الفرنسية ما زالت حاضرة وبقوة في لبنان، أي فرنسا الغائبة الحاضرة دائماً ومن دون منافس بين أشجار الأرز. طبعاً أمريكا أيضا ترى في لبنان منطقة استراتيجية لها خاصة أنَّه يشكل حدود إسرائيل الشمالية ولهذا هي معنية بهذه المنطقة وخاصة الجنوب منه وابعاد حزب الله من هناك أو تطويعه وفق ما تريده قوى الهيمنة.
لهذا لا يمكننا النظر إلى تفجير بيروت على أنه حادث عرضي وأن كل الأمور ستعود إلى ما كانت عليه قبل التفجير، بل على العكس أن لبنان دخل في نفق مظلم ولن يعود كما السابق نظراً للقوى الإقليمية والدولية التي دخلت لتتباكى على أطلال بيروت ولكن عينها على موطئ قدم لها. فرنسا وبريطانيا كانتا السباقتين بارسال جنودهما واساطيلهما قبالة الشواطئ اللبنانية، وبهذا قطعت الطريق ربما على روسيا وتركيا لتبقي تدخلهما على لبنان خدمياً وانسانياً. الدور العربي الغائب عمّا يحدث في المنطقة لا يمكن التعويل عليه كثيراً ليكون عنده مفاتيح الحل، فهو تائه في دوامة الصراعات الداخلية والانكماش حفاظاً على الموجود أكثر مما هو التحضير لما هو قادم.
سوريا التي ما زالت تعيش صراعات القوى الإقليمية والدولية لا جديد فيها سوى قانون قيصر الذي حولها من دولة مدمرة إلى كومة من الأطلال سيتغنى عليها بعض الشعراء الذين عبروا المتوسط في قوارب الموت، معارك ادلب لن تنتهي إلا بتوافقات دولية أكثر مما هي إقليمية لأن المتحكم في اللعبة في سوريا وإن كانت روسيا إلا أن الكلمة الأخيرة ستكون لأمريكا التي تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على الجغرافيا السورية في الوقت المناسب. هكذا هي أمريكا منذ الحرب الكونيتين الأولى والثانية ونحن على أعتاب الحرب العالمية الثالثة لم تغير من أسلوبها في الانقضاض على الفريسة إلا في آخر لحظة حينما يتم استنزاف الكل، لتستفرد بالفريسة وحدها. وهذا الوقت ليس بعيداً كثيراً وربما يتم البحث عن إلهاء روسيا في أماكن أو صراعات خارج الجغرافيا السورية، ربما تكون ليبيا أو حتى أذربيجان وهذا يتوقف على الدور المنوط بتركيا كي تنقل ما تبقى من مرتزقة شيشان أو اذريين الى مناطقهم التي أتوا منها ليشعلوا النار فيها على روسيا التي سيتم استنزافها هناك.
وهناك منطقة شمال شرقي سوريا والتي تتمتع بإدارة ذاتية تحت سيطرة مجلس سوريا الديمقراطية والتي تعيش حالة من الاستقرار النسبي مقارنة بباقي مناطق سوريا. إذ، أنها المنطقة الوحيدة التي تحتضن كافة مكونات سوريا من عرب وكرد وآشور وتركمان وشيشان وأرمن يتعايشون مع بعض وبنفس الوقت يديرون المنطقة بشكل تشاركي وكل وفق امكانياته إن كان من الناحية الاجتماعية أو الخدمية وكذلك من الناحية الأمنية والعسكرية. ونتيجة ضعف السيطرة في بعض المناطق وكذلك طبيعة المنطقة الاجتماعية والفراغ الذي تعيشه يسعى النظام السوري وكذلك تركيا وايران وروسيا أن تلعب على الوتر العشائري لتأليبهم ضد أمريكا والكرد بحجج كثيرة والهدف زعزعة الاستقرار في المنطقة للوصول للاقتتال بين العرب والكرد. الكل يحاول أن زرع الفتنة ولكن حتى هذه اللحظة محاولاتهم لم تلقَ أو تنجح نتيجة وعي الشعب هناك وأن النظام لم يغير من عقليته وهو ليس الخيار الأفضل. حالة التغيير التي تشهدها المنطقة تحسب للإدارة الذاتية التي تعمل على بناء المؤسسات الخدمية نوعاً ما وإن لم ترتق إلى المستوى المطلوب بعد. والأهم في هذا الأمر هي المكانة التي وصلتها المرأة في هذه المنطقة من ناحية الإحساس بذاتها ومكانتها وخاصة بعد مشاركتها بشكل فعال في كافة المؤسسات وخاصة الأمنية والعسكرية منها. حيث أثبتت المرأة نفسها في أنه بمقدورها أن تدافع ليس فقط عن نفسها بل عن المجتمع وحماية المرأة في المجتمع أيضاً بعيداً عن املاءات الرجل ذو العقلية الذكورية. هذه التطورات هي التي انعكست بشكل إيجابي على المجتمع بشكل عام والمرأة على وجه الخصوص. ولهذا نرى النظام السوري وتركيا وايران وروسيا يعملون كل مافي وسعهم للإجهاز على هذه التجربة وعدم انتشارها. الكل عينه على هذه المنطقة وينظر إليها اقتصادياً بالإضافة للقضاء على تجربة الإدارة الذاتية.
العراق الذي ما زال يترنح تحت النظم الطائفية لم يستعد عافيته حتى الآن بالرغم من كافة الحكومات المتعاقبة التي وصلت لسدة الحكم فيه. ويمكن اعتباره لبنان المصغر في كثير من النواحي وخاصة الدستور الذي يعتمده العراق هو دستور توافقي ما بين مكونات وطوائف العراق وهي السنة والشيعة والكرد، وكلٌ له حصته من السرقة أو السلطة في العراق والفساد. حيث الرئاسة كردية ورئاسة الحكومة شيعية والبرلمان من نصيب السنة. هذه المحاصصة السياسية هي التي حولت العراق إلى دولة الاقتتال الداخلي وليذهب العراق للجحيم. وهذا ما يجعل الحكومة الأخيرة لمصطفى الكاظمي أن تتحمل العبئ الثقيل الموروث من الحكومات السابقة التي كانت لسان حال ايران لا أكثر.
ليبيا والتي تحولت في الفترة الأخيرة إلى جبهة ساخنة بعدما نقل اردوغان أكثر من 17 ألف مرتزق سوري وأكثر من عشرة آلاف من الإرهابيين الأجانب وغيرهم من العرب التونسيين والمغاربة وكذلك جمع الإرهابيين من الصومال والنيجر في المناطق التي احتلها في ليبيا وخاصة في مصراته وطرابلس وترهونة وبني وليد ومطار الوطية. كل ذلك جعل من ليبيا نقطة صراع إقليمي ودولي وخاصة أن ليبيا وما تمثله بالنسبة لمصر وتونس والجزائر وهي الدول المجاورة لليبيا. الاحتلال التركي لليبيا جعل من هذه الدول تتخذ أعلى درجات تدابيرها تجاه ما يقوم به اردوغان ومرتزقته في ليبيا. خاصة أن مدينتي الجفرة وسرت القريبتين من مصر والتي يحاول اردوغان ارسال المرتزقة كي يسيطروا عليها، إلا أن الرد المصري كان حاسماً وهي أن السيسي أعلن أن هاتين المدينتين هما خط أحمر بالنسبة للأمن القومي المصري. حيث عملت مصر على ارسال جيشها إلى الحدود الليبية تحسباً لأي طارئ يحدق في ليبيا وتم تعزيز هذا الجيش بالدبابات والمدرعات ومطار عسكري كبير. بالإضافة إلى استقبال السيسي للقبائل الليبية والتي أعلن عن استعداده لتدريب أبناءهم للدفاع عن ليبيا وتحريرها من المرتزقة والإرهابيين. حتى الآن الوضع مستقر نوعاً ما والكل يترقب ماذا سيفعل اردوغان هل سيأمر المرتزقة بالهجوم على سرت والجفرة أم أنه سيكتفي بما احتله من مدن في غرب ليبيا؟ وهذا هو المتوقع في الوقت الحاضر على الأقل. حيث أن هدف مجيء اردوغان الى ليبيا بالإضافة إلى أوهامه في استعادة العثمانية مجدداً، إلا أنه بنفس الوقت ينفذ ما هو مطلوب منه في مشروع الشرق الأوسط الكبير.
البحر المتوسط وما تم الكشف فيه عن كميات كبيرة من الغاز أسالت لعاب الكثير من الأطراف الإقليمية والدولية على هذا الحوض. وراحت كل دولة تهتم أكثر بالمياه الإقليمية العائدة لها. خاصة مصر ولبنان وسوريا واليونان وقبرص وليبيا. تركيا التي أرادت أن يكون لها نصيب من الغاز راحت تعربد في المياه وتريد أن تفرض نفسها بالقوة على الأقل في أي مكان ليكون لها موضع قدم في السياسة المستقبلية لهذا الحوض وما سينتج عنه من غاز والذي سيشكل عصب الحياة والصناعة في القرن الحادي والعشرون بدلاً عن البترول والنفط. راحت تركيا تنقب عن النفط في قبرص الشمالية والتي لا يتعرف بها أحد غير تركيا بعد أن احتلتها في سبعينيات القرن الماضي. وكذلك ابرمت اتفاق مع حكومة الوفاق التي يتزعمها السراج حول عدة أمور والأهم هي كانت ترسيم الحدود المائية بين تركيا وليبيا، حيث لا حدود مشتركية بين تركيا وليبيا حتى يتم ترسيم الحدود بينهما ولكنها بلطجة اردوغان بمقدوره أن يرسم ما يشاء على المياه المتحركة. ولكن الذي قامت به مصر من ترسيم الحدود المائية بينها وبين قبرص واليونان، وكذلك اليونان وإيطاليا، هاتين الاتفاقيتين هما اللتان قطعتا الطريق على تركيا في البجر المتوسط ولم تتركا لتركيا أي حدود متصلة مع ليبيا وبذلك ماتت الاتفاقية التركية الليبية قبل أن تولد.
الصراعات مستمرة ما بين كل الأطراف من دون استثناء ولم تتشكل جبهات الصراع بعد بين هذه الأطراف بشكل عام. ولكن ربما تظهر بوادر جبهات الصراع قريباً نظراً لحالة التوتر التي صاحبت تفجير بيروت ولما له من تداعيات أيضاً على من سيكون له نصيب الأسد من غاز لبنان والذي تتنازع عليه إسرائيل ولبنان أيضاً. أي ان للتفجير تداعيات كبيرة ولم تنتهِ بعد لأنه ربما يكون القادم أعظم. وما خُفي من جمر تحت رماد بيروت بكل تأكيد له تداعيات على المنطقة برمتها.