الحدث – القاهرة
الطامة الكبرى التي ابتلت بها شعوب المنطقة منذ عقود خلت وحتى يومنا هذا تتمحور في زمرة المستبدين المتشابهون في كل شيء منذ القدم وحتى الآن. دائماً ما كانت نظرتهم للمجتمع على أنه مُلكية خاصة بهم وللعشب على أنهم رعاع وقطيع في الدولة التي يرونها حديقة خاصة بهم. وأساس هذه النظرة السطحية متأتية من تفعيل سياسة الثنائيات القاتلة التي يتم زرعها في المجتمع لتسهيل السيطرة على مجاميع الرعاع والقطيع من الشعب.
دائماً ما يتم تخيير الشعب ما بين أمرين يكون أحلاهما مرّ بالنسبة للمجتمع وبنفس الوقت تكون الهدية السماوية للحكام كي تستمر سلطتهم ونفوذهم وسرقاتهم وفسادهم، عبر التلويح بشكل دائم أنه ثمة خطر داهم علينا وأن هذا الخطر أزلي ويجب على الجميع أن يكون متأهباً دائماً لمواجهته بكل الإمكانيات وعلى الشعب أن يقدم التضحيات من أجل الحفاظ على سيادة الدولة والوطن. وعبر هذا الخطاب المتكرر لعقود من الزمن ومن خلال الآليات التي تتبعها الأنظمة لترويض الشعب على هذا الخطاب المتكرر تصل الأنظمة لبناء مجتمع نمطي مستقر لا يفكر إلا في كيفية حصوله على فتات الخيرات أو أن يدعوا للنظام أن يطيل الله في عمره للحفاظ على حالة الاستقرار التي منَّها الحكام عليهم.
أمن أو حرية، فوضى أو استقرار، صديق أو عدو، حليف أو عميل، سني أو شيعي، مسلم أو كافر ومشرك… الخ، من الثنائيات والهويات التي يتم فرضها على المجتمع من قبل الأنظمة الحاكمة عبر وسائلها التعليمية والتربوية والإعلامية والأيديولوجية المختلفة بشكل مستمر حتى تصل لبناء مجتمع لا يفكر سوى في كيفية الوصول لتلك الشخصية السطحية المسخة التي تفرضها الحكام على الشعوب. تحديد هذه المصطلحات الثنائية بتم بعنابة كبيرة بعد أن يتم تعريفها واعطاءها مئات المعاني التي ليس لها علاقة بالمصطلح بالأساس.
كثيرة هي الأنظمة عبر التاريخ التي اعتمدت هذا الأسلوب في تعاملها مع مجتمعاتها وشعوبها والتي لم تكن نهايتها مختلفة عن بعضها البعض، بل متشابهة في الكثير من الأمور وحتى النهايات المأساوية التي يعيشها المجتمع جراء حالة اللا استقرار التي تم اقحامه فيها.
ويمكننا أن نرى بكل وضوح هذه الأنظمة والحكام والتي لا تزال مصرة على السير بنفس السلوك والأسلوب في تعاملها مع شعوبها في راهننا كذلك. فتطور العلوم والتكنولوجيا لم يردع هذه الأنظمة في أن تعيد حساباتها أو أنه لم تحثها على تغيير سلوكها وتعاملها مع الشعوب وتتقرب وكأن المجتمعات تعيش في القرون الوسطى وأن مستوى تفكيرها لم يرتقِ لمعرفة حقيقتها المكشوفة أساساً. بعد أن حول التطور العلمي والتكنولوجي هذه الحكام إلى ملوك عراة وباتوا اضحوكة والعوبة بيد قوى الهيمنة الإقليمية والدولية.
لا يختلف الأمر عما يعيشه العراق ما هو موجود في سوريا واليمن وايران وتركيا وغيرها من الدول التي لم تتعظ من التاريخ شيئاً. لا زالت مصرة على اعتبار الشعب مجرد قطيع بمقدورها أن تقوده حيثما تشاء ووقتما ما تشاء تحت خطابات وشعارات قومجية ودينوية تخدعهم بها من أجل إدامة سلطتها وفسادها وسرقاتها.
الكثير الآن من يقارن بوضع سوريا قبل الأزمة وما بعدها ويذهب للتفضيل بينهما على ما قبل الأزمة كانت سوريا أفضل ومستقرة ولم تكن العوبة، وما يثيرونه من أسئلة حول ماذا استفدتم غير دمار وخراب بلدكم؟ سؤال في مكانه بكل معنى الكلمة. لأن الانسان دائما ما يبحث عن الاستقرار والأمن والحرية كلها مع بعض وليست مجزأة. بكل تأكيد أن طرفي الثنائيات ليست صحيحة، لأن عملية التفضيل هنا ما هي إلا فخ للمجتمعات يتم اصطياد كرامتهم فيها على أساس اختيارهم. فما قيمة الاستقرار والحرية والانسان يعيش من دون كرامة وعزة النفس، في حين أن الفوضى أيضا غير مقبولة لأنها بالأساس لن تمنح الانسان الكرامة. ولكن ينبغي ألا يتم طرح السؤال على الذين يرفضون هذه الأنظمة بقدر ما ينبغي طرحه على الأنظمة، ماذا استفادت من عنادها واصرارها على الاستبداد تحت مسمى الاستقرار؟
بكل تأكيد أن أي مجتمع يتخلى عن الحرية من أجل الامن، سيخسر الاثنين ولن ينال سوى الذل والهوان والتهجير والدمار مثلما نرى الآن ما حصل ويحصل في سوريا والعراق كمثالين لا أكثر، مع أن حال معظم دول المنطقة ليس أفضل مما يحدث فيهما. لأنها بالأساس مبنية على أساس هذه الثنائيات القاتلة التي انتجت مجتمع نمطي يعيش باللغة الواحدة والعلم الواحد والدولة الواحدة والعرق الواحد والدين الواحد.
متى سنخرج من مستنقع الثنائيات والهويات القاتلة هذه وألا يتم إجبار الشعوب على اختيار السيء من الأسوء، ولندخل حياة فيها تكون الخيارات كثيرة ومتعددة وليس فقط إما أبيض أو أسود ونعيش في عالم الألوان المتعددة والخيارات والمتعددة كي نعطي لحياتنا معاني متعددة بعيداً عن الرتابة والملل الذي نعيشه من قرون عدة حتى وصلنا إلى ما نحن عليه. فتعدد اللغات والقوميات والمذاهب والأعراق كل ذلك يمكن اعتباره غنىً مجتمعي وثقافي هو أساس تطور المجتمع للوصول به إلى مجتمع حر وانسان حرّ وليس منقاد من قبل مصطلحات سلطوية لا تعرف سوى منفعتها وليذهب المجتمع بما فيه للجحيم.