الإثنين 25 نوفمبر 2024
القاهرة °C

الحوار العربي – الكردي سوريّاً

مرح البقاعي

لم يتوقف الحوار العربي- الكردي حول مستقبل سوريا ما بعد استبداد الأسد وشوفينية البعث منذ اندلعت الثورة السورية الماجدة حتى تاريخ كتابة هذه السطور، وكان العرب والكرد شركاء في بواكير مظاهراتها السلمية التي خرجت تطالب بالحرية والكرامة والعدالة الإنسانية.

ومع الحراك المدني، تنامت طفيليات الأمر الواقع حين ظهرت مجموعات من المتطرفين ادّعت انتماءها لصفوف المعارضة المسلّحة مقابل النفعيّة التي اعتمدها نظام الأسد بحجة مكافحة إرهاب تلك المجموعات بينما عينه على الاستمرار في الحكم مهما كلّف الثمن، ووقعت انعطافات خطرة في صفوف المعارضة عَطّلت بولاءاتها المتعدّدة المساقط، إقليمية كانت أو دولية، المسار الوطني الذي كان قد وحّدها حين انطلاقها الأول لهدف واحد وهو إسقاط نظام الاستبداد وبناء الدولة السورية الجديدة التي تتسع لكل مواطنيها.

ومن المثير للألم أن شرخاً عميقاً وقع بين رفاق الدرب الواحد من عرب وكرد  كان نتيجة عوامل عدة أهمها استثمار حالة التشظّي تلك من قِبل الدول المتدخّلة بما يتماشى مع مصالحها الخاصة وعقدها التاريخية ومطامعها في الأرض السورية، ساهم نظام الأسد في تعميق هذا الشرخ وإنضاج عوامل ومسبّبات الفُرقة بين عرب وكرد، بينما معظم السوريين العرب براء من الشوفينية البعثية على امتداد عقود على نهج  “فرّق تسد” من قبل حافظ الأسد، فالحكومات البعثية التي تعاقبت على سوريا إثر استيلاء الحزب على السلطة بقوة السلاح، قد تعاملت بشكل منهجي وقصدي مع أبناء سوريا الكرد كمواطنين من الدرجة الثانية، وتنكّرت لحقيقة وجود المكوّن الكردي كقومية شريكة في المواطنة والحقوق والواجبات، فطبّقت بحق الكرد إجراءاتها القمعية التي تمثلت في الحرمان من حق التعليم باللغة الكردية، وتنفيذ الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 في محافظة الحسكة وما نتج عنه من فصل عنصري على طريقة الأبارتيد بين الإخوة العرب والكرد من القاطنين على ضفتي نهر الفرات.

وكان لا بد من الاعتراف السياسي بحقوق الكرد في المواطنة المتساوية في إطار الدولة السورية الواحدة؛ فوحدة سوريا وسيادتها واستقلالها عن أي نفوذ أجنبي هو مفرق أساس في الحوار المنشود بين الطرفين، العربي والكردي، يقرّه الوطنيون من السوريين الكرد مهما اختلفت انتماءاتهم الحزبية.

أما الاعتراف السياسي فلا يمكن له أن يكون مثمراً ومتواصلاً ما لم ينبنِ على أرضية ثقافية تحتفي بالثقافة واللغة الكرديتين كعامل مؤثر وقيمة مضافة تساهم في إغناء الموزاييك الحضاري للشعب السوري بتعدّد مكوناته الإثنية والدينية والمذهبية؛ وعليه فمن حق الكرد تعليم أولادهم اللغة الكردية وتداولها كلغة ثانية تلي اللغة العربية الرسمية للبلاد، كما يمكن تدريسها للراغبين من الطلاب في المراحل الدراسية العليا كلغة حيّة من لغات الحضارات التاريخية للمنطقة.

فالاحتفاء بالثقافات القومية السورية لا ينتهك سيادة الوطن ولا يُعتبر مساساً بوحدته، لأن الوحدة الوطنية المستدامة لا تحدث بالإكراه أو بالإنكار، بل في الاعتراف بالتنّوع الإثني للسوريين الذي هو سرّ من أسرار تاريخهم الإنساني الممتد لآلاف السنين، وفي استعادة ملامح عظمة ذاك التاريخ لبناء الدولة العصرية التي تواكب المستقبل.

أما على صعيد الحوكمة والنظام المرتقب، فتشكّل اللامركزية الإدارية صمام الأمان لسوريا الجديدة، وقد أثبتت التجارب العالمية صحة هذا النظام الذي يراعي التعدد الإثني في الدول الغنية بمكوناتها القومية والثقافية كما الحال في سوريا.

ساذجٌ من ينظر إلى اللامركزية الإدارية على أنها وصفة مُرّة للانقسام أو التقسيم، فتجارب دول كبرى في العالم لجأت إلى هذا النظام التشاركي في الإدارة المحلية إثر خروجها من حروب طاحنة هي خير مثال على ما يمكن أن يكون ناظماً للإدارة السورية ما بعد الأسد، وليست دول مثل ألمانيا الاتحادية وسويسرا والولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة وماليزيا إلا بالأمثلة المغرية لانتهاج ما يقاربها.

تهدف اللامركزية الإدارية بمفهومها التطبيقي إلى منح المواطنين، أو ممثليهم المنتخبين، المزيد من المشاركة في السلطة والقدرة على التأثير في صياغة وتنفيذ القوانين والسياسات، كما من شأن اللامركزية أن تحقّق تمثيلاً شعبياً عادلاً في الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية بعيداً عن النزعات الطائفية والدينية والقومية الشوهاء.

فصل المقال، وتحقيقاً لما تقدّم ضمن شرط ومعطى الحالة السورية، لا بدّ من إجراء إصلاحات دستورية وقانونية جذرية تستدعي إعادة كتابة دستور وطني توافقي، ناهيك عن تطوير أحزاب سياسية جديدة، وتمكين سلطة الهيئات التشريعية، وإنشاء وحدات سياسية محلية. كما لا بد للقوانين التي ستنبثق عن الدستور السوري الجديد من أن تلغي كل المراسيم والإجراءات والقوانين التعسّفية والعنصرية بحق مكونات الشعب السوري كافة ومنها المكوّن الكردي، وصياغة قوانين جديدة تجرّم العنصرية والتطرّف الديني والاحتكار الطائفي، قوانين إنسانية عادلة تعيد النصاعة إلى الوجه المدني والحضاري لسوريا، التاريخ الإنساني العريق الذي سيتجدّد في المستقبل.

to top