خورشيد دلي
نظرة العقل السياسي إلى أي قضية، هي في النهاية نتيجة تراكمات تاريخية، وفعل سياسي، ورؤية ايديولوجية، على شكل مفهوم يتكون عبر التاريخ والممارسة الاجتماعية والسياسية.
في نظرة الكرد والعرب لبعضهما، ثمة شك وريبة على شكل هواجس قائمة في العقل السياسي، إذ لا يكاد يخلو أي نقاش أو حديث بين مثقفين عرب وكرد من العتب المتبادل، ولكل طرف مبرراته وحججه ورؤيته وقناعاته التي يستند إليها في نظرته إلى الآخر.
في الوعي الكردي، ثمة قناعة عميقة بأن أشقائهم في التاريخ والجغرافية والدين، لم يعطوا الأهمية اللازمة لقضيتهم، وما لحق بهم من ظلم على يد أنظمة دول المنطقة طوال القرون والعقود الماضية، وأن الإعلام العربي لا يتعامل مع قضيتهم إلا من زاوية خبرية آنية حدثية … وليس انطلاقاً من قضية شعب تعرض للإقصاء والتهميش والحرمان تحت شعارات قومية ودينية ومبررات سلطوية.
نظرة الكردي إلى إشكالية العلاقة مع العرب، تتجاوز قضية غياب صيغة قانونية ودستورية لتنظيم العلاقة بين الشعبين العربي والكردي إلى العقل السياسي العربي على اختلاف مشاربه القومية واليسارية والليبرالية وتياراته الإسلاموية على اختلافها، وحسبه، فإن الإطار العام لهذا للعقل ينطلق من شعارات كبرى كلية، ولا ينظر إلى الكرد سوى كقضية هامشية ثانوية، يمكن تأجليها إلى ما لانهاية، بل وكثيراً ما يخرج البعض هذه القضية من منطق الجغرافية والتاريخ والمجتمع، ويضعها في إطار نظريات مشبعة بروح العداء والتآمر على الأمة العربية من خلال التحالف مع الولايات المتحدة وإقامة العلاقات مع إسرائيل دون أن تطبق تيارات عربية سائدة هذه القاعدة على نفسها، وهكذا يتحول الكردي المطالب بحقوقه القومية والاعتراف بهويته إلى عنصري مضاد ينبغي محاربته إن لم يكن قتله، ولعل من رحم هذه الايديولوجية بنى الاستبداد عروشه، وتحجر الفكر في شعارات ايديولوجية، وتجمدت مفردات الثقافة والفكر لصالح التعصب.
وانطلاقا من كل ما سبق كانت مواجهة أي مطالبة كردية بإعادة تأسيس الدولة العراقية سابقاً والسورية اليوم بالحديد والنار بدلاً من أن تكون هذه المطالبة مراجعة للعقل والفكر والايديولوجية، ودعوة للتخلي عن الاستبداد ومصادرة حق الشعوب والأقليات غير العربية، حتى بدت صورة الدولة العربية الحديثة صورة للاستبداد والقمع والتضاد مع مكونات أصلية شكلت هوية الدولة. في المقابل، ثمة عتب عربي مترسخ تجاه الكرد على شكل أسئلة ورؤى في العقل السياسي، وهو عتب غالباً ما ينطلق من أولويات ومخاوف لها علاقة بالايديولوجية من جهة، وبالقضية الكردية ككل من جهة ثانية، فثمة سؤال يشغل عقل النخبة العربية، وهو لماذا تثار القضية الكردية بقوة في العراق وسوريا ولا تثار في إيران وتركيا بنفس القوة علما أن عدد الكرد في تركيا يتجاوز عددهم في هذه الدول مجتمعة كما أن عددهم في إيران أكبر من عددهم في العراق؟ كذلك، فإن بعض المثقفين العرب ولاسيما من التيار القومي كثيراً ما ينظرون بخشية شديدة إلى أي مطلب كردي بشأن حق تقرير المصير، إذ أنهم غالباً ما يضعون هذا الحق للكردي في إطار المؤامرة على الأمة العربية، بل ويذهبون إلى حد وصف مثل هذا المطلب بتأسيس إسرائيل ثانية، مع أن مثل هذا الوصف يفتقر إلى المنطق والدقة، فعلى الأقل الكرد هم شعب مسلم ويعيش على أرضه التاريخية منذ الأزل، خلافاً للإسرائيليين الذين تم استقدام معظهم من مختلف دول العالم للاستيطان على أرض فلسطين، فيما كردستان كمصطلح جغرافي وحقيقة قائم منذ قرون. أسئلة ربما مشروعة على مستوى الفكر والسياسة، ولكن الإجابة عنها تتطلب الخروج عن الأحكام الجاهزة إلى معرفة الحقائق والوقائع، كي تكون المقاربة السياسية للقضية واقعية وعقلانية تخدم المصالح المشتركة. والغريب هنا، هو أنه رغم كل التطورات الحاصلة والحقائق الماثلة فإن التفكير بهكذا قضايا مصيرية لم يخرج عن الصندوق التاريخي المغلق للعقل.
رؤية التيارات الإسلامية ربما لا تختلف كثيراً عن رؤية الأحزاب القومية العربية في هذا المجال، فتيارات الإسلام السياسي غالباً ما بنت رؤيتها تجاه الأقليات القومية والدينية على أساس الوحدة دون الاعتراف بالخصوصية القومية الكردية، بل أن تيارات إسلامية عربية وانطلاقاً من تحالفاتٍ سياسية ايديولوجية مع أنظمة سياسية دعمت حرب الأخيرة ضد الكرد بحجج مختلفة في وقت لا تتوانى هذه التيارات عن رفع الشعارات المطالبة برفع الظلم عن الأقليات المسلمة في مناطق متفرقة من العالم مثل الروهيجينا في ميانمار، فيما يتم تجاهل حقوق أحفاد صلاح الدين الأيوبي محرر بيت المقدس، ولعل مواقف جماعات الإخوان المسلمين بهذا الخصوص تشكل خير دليل على ذلك، إذ أنها تنطلق من محددات السياسة التركية التي قامت على إنكار الحقيقية الكردية كهوية وشعب وحقوق، وأبعد من هذا فإن ايديولوجيات تنظيمات إرهابية محسوبة على الإسلام السياسي مثل “داعش” و”النصرة” قامت على شرعية قتل الكرد بوصفهم غير مسلمين.
ومع أن مواقف بعض القوى اليسارية والاشتراكية العربية كانت متقدمة نظرياً على مواقف التيارين القومي والإسلام السياسي من القضية الكردية إلا أن مواقف هذه القوى ظلت في إطار رؤية النخب الفكرية والثقافية دون أن تتحول إلى واقع ملموس يمكن البناء عليه سياسياً في بناء مقاربة عملية وعلمية من القضية الكردية، واللافت في مواقف هذه القوى هي أنه خلال العقود الماضية وتحديداً خلال الحقبة السوفييتية ذهبت إلى دعم حق تقرير المصير لمختلف شعوب العالم من أمريكا اللاتينية مررواً بإفريقيا إلى أقصى آسيا، ولكن في الحالة الكردية كان يتقرب منها بطريقة خجولة، ولعل هذا ما جعل من مواقفها المتقدمة نظرياً دون فاعلية يمكن البناء عليها، إذ أنها سرعان ما تلاشت تحت وقع التطورات الجارية. في الواقع، بسبب هذه الرؤى المتحجرة، يمكن القول إن واقع العلاقة العربية – الكردية يعاني من خلل فكري وسياسي يتعلق بالرؤى والمواقف والمفاهيم والممارسات قبل أن يتعلق بغياب أطر قانونية ودستورية لتنظيم هذه العلاقة والحقوق عند كل منعطف أو حدث من أجل التأسيس للمستقبل.
دون شك، جدران سوء الفهم أو التفاهم العربي – الكردي للبعض كثيرة، ومواطن الخلل أكثر، ولعل الوصول إلى علاقة إيجابية بحجم التاريخ والجغرافية والمصالح المشتركة والمستقبلية يتطلب مراجعة فكرية وسياسية وثقافية، ومثل هذه المراجعة لا بد أن تكون مدخلاً لكسر الايديولوجيات التي كلست الفكر وأطَّرته في شعارات معلبة، على أمل أن تؤسس هذه المراجعة لفهم جديد بحجم الوقائع التاريخية والجغرافية والثقافية، وتؤسس للتخلص من تلك الرؤى والنظريات الجاهزة التي نظرت على الدوام إلى الأقليات القومية والدينية من زاوية الريبة والشك والمؤامرة، فالثابت أن الكرد شعب عريق لديه وحدة الأرض واللغة والعادات والثقافة والإرادة، كما لديه تجربة الكفاح السياسي والعسكري والوعي القومي والتطلع إلى الحرية والمستقبل، وهو ما يجعل من الأهمية عربياً فهم هذه الإرادة من أجل بناء علاقةٍ تاريخية مع الكرد، علاقة تخدم الشعبين على أساس من التعاون والاحترام المتبادل، على شكل الانتصار لإرادة واحدة في التطلع إلى قضايا المنطقة، ولعل مجمل ما سبق يتطلب حواراً مفتوحاً صادقاً بعيداً عن النظريات والرؤى المسبقة. فالسؤال هنا يتعلق بالمصير المشترك على شكل اعتراف متبادل بالحقوق والهوية ونسج علاقات متكافئة تقوم على العدل والمساواة والعدالة، ودون ذلك فإن الفكر يبقى أسيراً للصندوق المغلق.
– نورث برس
أسبوعين مضت
4 أسابيع مضت